د. عبد المجيد زراقط
كان أطفال القرية، في النِّصف الأوَّل من القرن العشرين، كما كانوا منذ زمن قديم، يتعلَّمون في كتَّاب القرية، والكتَّاب عبارة عن غرفة واحدة يستأجرها أهل القرية ليتعلَّم فيها أبناؤهم مبادئ القراءة والكتابة، والحساب والخطّ على يد "شيخ" لم يكمل مراحل التعليم الدينيّ في النجف الأشرف.
كانت مدَّة الدِّراسة في الكتَّاب تنتهي عندما يختم التلميذ القرآن الكريم، فيتخرَّج، وكان التلامذة يختمون القرآن الكريم واحداً بعد الآخر...
ثمَّ، وبعد استقلال الجمهوريَّة اللبنانيَّة، أرسلت الدَّولة مدرِّساً ليدرِّس أطفال القرية، فجرى استئجار غرفة له. وكان هذا المدرِّس يُسمَّى مدرِّساً منفرداً، يدرِّس المواد المقرَّرة في منهج وزارة التربية الوطنيّة جميعها، فيخصِّص لكلِّ صفٍّ ساعة أو ساعتين.
ولمّا كثر عدد التلامذة، واستدعت الحاجة تدريس صفوف جديدة، وعدَّة غرف ومدرِّسين، ذهب وجوه القرية إلى "البيك"، ليوسِّطوه لدى وزارة التربية، لتبني مدرسة حديثة كبيرة، وترسل عدداً كافياً من المدرِّسين.
وعد "البيك" وجوه القرية غير مرَّة بتلبية طلباتهم. ولمّا كثرت مراجعاتهم له، واشتدّ إلحاحهم عليه، قال لهم، في إحدى المرّات، وهو يبتسم:
- لِمَ تريدون أن تعلِّموا أبناءكم وتُتْعِبوهم في تحصيل العلم؟! يكفي أن أعلِّم لكم ابني الغالي.
ضحك أبو عليّ (اسم مستعار)، وقال لأصحابه الذين كانوا يتبادلون الأنظار متعجِّبين:
- صدق المثل: "إذا شربت حنجولة، شرب العجَّال!".
ضحك الجميع. كان "البيك" ينظر إليهم، وهو مشدود الانتباه. سمع ما قاله أبو عليّ، ورأى البسمات على الوجوه، فزمَّ شفتيه، وقطَّب جبينه، فكتم الرجال أنفاسهم، بعد أن أطبقوا شفاههم.
ولما أردوا الخروج، طلب "البيك" من أبي عليّ أن يبقى جالساً في مكانه، فلديه كلام خاصٌّ معه. ولمّا خرج الجميع، بادره "البيك" بالسُّؤال:
- ما هي قصّة "حَنْجُولة"؟!
ارتبَكَ أبو عليّ، وتاهت نظراته في أرجاء القاعة الواسعة.
ابتسم "البيك"، واقترب من أبي عليّ، وربَّت على كتفيه، وقال له، وهو يبتسم ابتسامة عريضة:
- أنت ضربت مَثَلاً، وأنا أحبّ الأمثال الشعبيّة وحكاياتها...
تنحنح أبو عليّ، ورطَّب شفتيه بلسانه، فقال "البيك": هاتوا لنا قهوة مرَّة... وحَضِّروا لنا غذاءً طيِّباً أيضاً.
رشف أبو عليّ القهوة على مهل، وراح يحكي:
يقتني كثير من أبناء القرية، من البقر، ما لا يحتاج إلى أن يُخصَّص له راعٍ خاصّ، أي بقرة أو اثنتين...، فيجمع هذا البقر، من بيوت أهل القرية، في "الصِّيرة"، وهي ساحة مسوَّرة تعود ملكيّتها للقرية، وتسمَّى "العجَّال".
في إحدى المرَّات، كان عند أحد وجهاء القرية الكبار بقرة حلوب، واسعة العينين، تختال إذا مشت، وترفع رأسها إذا نوديت باسمها "حنجولة". وكان صاحبها وأفراد أسرته يدلِّلونها، وكذلك كان يفعل الراعي، وكثير من أبناء القرية.
ذات صيف، قلَّت المياه في القرية، وجفَّت مياه البركة، وكان لا بدَّ من توفير الماء اللازم لشرب بقر العجَّال، فجاء أصحاب البقر إلى بيت الوجيه الكبير ليبحثوا في الأمر، فبادرهم منذ أن وصلوا بالقول:
- والله، اليوم، حرقت "حنجولة" قلبي... شفتها ذبلانة... لكن... لا تخافوا... دبَّرنا سطل ماء من البئر، وشربت "حنجولة"...، فهبَّ الجميع صائحين:
- يعني إذا شربت "حنجولة" شربت "العجَّال"؟!
قال: صحيح... صحيح... إذا شربت "حَنْجولة" ماء شِرْبْ العجَّال"!
ضحك "البيك" ضحكات متقطّعة، وقال: يعني ابني صار حنجولة، يا أبو عليّ؟!
وقف أبو عليّ، وخطا صوب "البيك" وقال:
- هذا مثل يا "بيك"، وفهمكم كفاية. وخرج.
صاح "البيك": والغدا، يا أبو عليّ؟!
التفت أبو عليّ إلى "البيك"، وقال:
- الرجال ينتظرونني... وحثَّ الخطى، قائلاً وهو يبتسم:
- يعني إذا تغدَّى أبو عليّ تغدَّى الرِّجال؟!
البسطة التحتا.بيروت
صبحي الكرار
2024-01-04 22:46:34
القصة حقيقية كانت مع أحمد بك الأسعد لمّا راح وفد من الأهالي يطالبوه ببناء مدرسه رد عليهم له له له لمين انا عم علّم كامل؟