نسرين إدريس قازان
الكوب ينضحُ بما فيه..
كلَّما جرَّبتْ أن تضبط إيقاع قلقها، شدَّتها الحيرة إلى دوّامة من الأسئلة التي لم تجد لها جواباً. لقد وقعت في فخٍّ من الهواجس واحتارت ماذا تفعل، هل تواجهه أو تسأله، أم تكتفي بالمراقبة من بعيد لفترة من الزمن فتفضي الأيام إلى الحقيقة؟!
*خائفة عليه!
ولكن لا! لن تستطيع الصبر أكثر، فما في الأمر من تناقضات لا يحتملُ الانتظار.. إنّ محمَّد عليّ ليس من الأولاد الذين يدّخرون المال لشراء لعبة أعجبته، أو يبعثره في شراء أشياء هنا وهناك، وأيضاً لا تجد من الأموال المدّخرة قرشاً واحداً، فأين يتبخّر المال؟
- ما الذي سلبكِ من الدنيا فلم تسمعي الباب ولم تردّي السلام؟
شهقتْ من وقوف زوجها بالقرب منها فجأة في المطبخ، وهي لم تسمع لا رنين الجرس ولا صوت المفتاح ولا حتى السلام.. جلست على الكرسيّ فيما أحضر لها كوباً من الماء وجلس قبالتها سائلاً إيّاها باستغراب:
- ما الأمر؟
قالت، وهي تنظر في كوب الماء الذي شربت نصفه: يحيّرني محمَّد عليّ كثيراً.. أنا خائفة عليه..
أخذ زوجها الكوب من يدها قائلاً: لماذا تنظرين إلى النصف الفارغ من الكوب؟! لا يعني إذا لاحظت شيئاً غريباً في تصرفات محمّد عليّ، أنّ شيئاً خطيراً يحدث..
نظرت إليه محاولةً أن تُفهمه هواجسها: لم يعد الأمر يتعلّق بخوفي من بخلٍ ما، كما أخبرتك سابقاً! هو ليس بخيلاً بالمطلق! لقد مرّ أسبوعان وأنا أراقبه، يدّخر الأموال ويحرم نفسه من شراء أيّ شيء، وعندما طلب منه أخوه مالاً أعطاهُ مبلغاً محدَّداً ممّا يدخره بحيثُ أبقى معه ما لا يستطيع التفريط فيه كما أخبره!
أخاف أن يكون ثمّة من يستغلّه ويجبره على إعطائه مصروفه فهو لا يتجاوز الثانية عشر من عمره!
ربَّتَ على يدها بيده قائلاً: لا أظنُّ أنّ الأمر كذلك.. لماذا لا تسألينه ببساطة هكذا؛ محمَّد عليّ ماذا تفعل بمصروفك؟ المواجهة تبدّد كلّ هذه الهواجس...
*النصف الآخر من الكوب
كان الطقس في ذلك اليوم ماطراً جدّاً، والصقيعُ ينخر العظام. أنهى محمّد عليّ دروسه وجلس أمام شاشة التلفاز يُشاهد الرسوم المتحركة فيما إخوته يدرسون، فاستسلم لغفوةٍ على الكنبة، فدثَّرته أمّه، وانصرفت إلى أعمالها..
تثاءب محمَّد عليّ وفرك عينيه بهدوء، فقالت له بصوت رقيق: "نوماً هنيئاً.. لقد استغرقتَ في النوم كثيراً"..
رفع محمّد عليّ حاجبيه مستغرباً: "حقّاً يا أمي؟ كم الساعة الآن؟"، قال متثائباً..
- إنها الثامنة ليلاً.
قفزَ من تحت الدثار منزعجاً ما إن سمع ذلك: يا إلهي! لقد فاتتني فضيلةُ صلاة المغرب!
توارى عن ناظريها وهي تفكّر: لا! لا يمكن لأحد أن يستغلّ محمّد عليّ! صحيح أنّه صغير، ولكنّه واعٍ لكلّ شيء.. ومن يهتمّ بفضيلة الصلاة، لا بدَّ أنّ لديه شجاعة مواجهة أيّ موقف..
وتذكّرت نصيحة زوجها: واجهيه بالأمر واسأليه..
- بلى... قالت في نفسها: فالنصف الآخر من الكوب مليء..
*ذكرى استشهاد القادة
صباح اليوم كان يوم السادس عشر من شهر شباط، ذكرى استشهاد القادة، وقد انهمكت الأم في تحضير زاد الأولاد إلى المدرسة. وبينما هم يتناولون طعام الفطور قالت: ما رأيكم اليوم أن تتبرَّعوا بمصروفكم لثلاثة أيام دعماً للمقاومة الإسلاميّة..
وافقوا على ذلك، وانتظر محمَّد عليّ إخوته حتّى خرجوا من المطبخ، فاقترب من أمّه قائلاً: ألا أستطيعُ الاحتفاظَ بمصروفي؟!
نظرت إليه وارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها وقد سنحت لها الفرصة بسؤالٍ يربض على صدرها: لماذا؟
نكس محمَّد عليّ رأسه واستولى الحياء عليه: أمي.. اعفيني من الإجابة..
أجابته: وإن لم أفعل؟!
جلس على الكرسيّ وراح ينقر الأرض بطرف قدمه: كان ثمّة اتّفاق بيني وبين رفاقي في المدرسة.. لقد اقترحت عليهم كفالة ابن شهيد.. واتّفقت معهم أن ندّخر من مصروفنا، غير أنّ بعضهم انسحب رويداً رويداً بحجج مختلفة، وبقيتُ وحدي، فصرت أجمع مصروفي كاملاً، لأجل تأمين الكفالة. إنّه شيء لا يُذكر أمام تضحية الشهداء العظام.
ترقرقت دمعة فخر في عينيّ الأمّ: إنّه فعل عظيم ما تقوم به يا محمّد! أنا عاجزة عن وصف شعوري! ويا ليتك تدرك حقيقة ما تقوم به من فعل، وأثره في الدنيا والآخرة..
أجابها محمّد: إنّ تكفّلي لأبناءٍ هو تعويض عن تقصير عدم المشاركة في الجهاد لصِغَرِ سنّي..
احتضنت ابنها وهي تقول في نفسها: الكوب ينضحُ بالخير..
وهمست في أذنه: يا حبيب قلبي ما أغلاك..
(*) اسم الشهيد: محمّد عليّ هاني شرارة.
اسم الأم: جمال موسى ياغي.
الوضع العائلي: عازب.
محل وتاريخ الولادة: الهرمل 18/3/1983.
كيفيّة ومحلّ وتاريخ الاستشهاد: استشهد في مجمع الإمام الحسن عليه السلام في حرب تموز 13/8/2006.
الشويفات
حنين ياغي
2021-03-19 05:46:07
إنك الملاك الذي عرفته يوما ما... كنت تسبق سنك و لم لا أذكر سوى ابتسامتك الطاهرة الهادئة في كل المواقف... علمتني ان الحياة أساسها الصبر وان الله يرعانا و لا يغفل عن الظلم الذي حل بنا قلتها لي و انت تبتسم.... هذة هي الثقة في الله... اشكر الله انك مررت ولو كذكرى جميلة في حياتي و كنت مدرسة بكل مواقفك... هنيأ" لك يا علي فأمثالك لا يستحقون الا الشهادة و مجاورة آل محمد....