نسرين إدريس قازان
الشهيد على طريق القدس القائد الحاج محمّد جعفر قصير (الحاج ماجد)
الاسم الجهاديّ: الحاجّ ماجد.
اسم الوالدة: فوزية حمزة.
الوضع الاجتماعيّ: متأهّل وله أربعة أبناء.
تاريخ الولادة ومحلّها: 1967/12/20م/ دير قانون النهر.
تاريخ الشهادة ومحلّها: 2024/10/1م.
كان اللقاء أشبه بفتح النوافذ على الزمن الجميل للبدايات التي كانت أساس كل التحديات التي كبرت وتعاظمت على مرّ السنين، والحاج ماجد، أحد أبرز القادة الذين وقفوا بصلابة أمامها.
بدأ صديق الشهيد القائد سرد حكاية الحاج، وخلال الحديث استوقفتنا صفة قالها الأمين الأقدس تختصرُ أهمية وحساسية الدور الذي كان يقوم به الشهيد: «الحاج ماجد رئة حزب الله»، يقول الصديق: إنّ العقل الاقتصاديّ والتجاريّ والخدماتيّ الذي حمله، خوّله أن يمارس دوراً محوريّاً وحسّاساً على صعيد محور المقاومة ككلّ في السنوات الأخيرة. كما كان له دور في أغلب المشاريع الخدماتيّة والإنمائيّة إلى جانب عمله الأساسيّ».
سألنا عن سرّ قدرته في إدارة هذه الخارطة العمليّة المتشابكة، فأجاب: «كان الحاجّ معروفاً بانضباطه الشديد ودقّته في استثمار الوقت، فليس لديه وقت فراغ. حتّى في أوقات راحته لا يتوقّف عن العمل؛ ففي السيّارة يقرأ كتاباً، وإذا جلس للاستراحة، يطالع تقريراً أو جريدة».
* مقاومٌ بكلّ كيانه
وهنا يأتي السؤال عن طبيعة اختصاصه الذي خوّله تحمّل هذه المسؤوليات الجسام، فيبتسم ميثم نجل الشهيد قائلاً: «والدي بلّاط» يضحك ثم يكمل: «عمّي الاستشهاديّ أحمد كان يعمل في السباكة، أثناء استقرار العائلة في ليبيا، لكن بعد العودة إلى لبنان عمل والدي في هذه المهنة وفي الوقت نفسه تابع دراسته، وكان لا يزال فتىً صغيراً، حتّى جاءت نقطة التحوّل الكبير في حياته، وهي استشهاد عمّي أحمد، فقد كانا مقرّبيْن جدّاً».
وهنا نسأله: «هل بدأ عمله المقاوم بعد استشهاد أحمد؟»، فيجيبنا: «لقد بدأ والدي بمقاومة العدوّ قبل ذلك، وليس بالسلاح فحسب، بل بالرفض والتحديّ أيضاً، وأذكر حادثة، يوم جمع العدوّ رجال القرية في الساحة مهدّداً إيّاهم بالقتل ليكشفوا أسماء شباب المقاومة، ثمّ حاول العدوّ استمالتهم بالطعام والشراب، صرخ والدي، ابن الخامسة عشر، في وجوههم: «لا نريد طعامكم». ولمّا رُفع أذان الظهر تحدّى منعهم أيّ حركة وكبّر وصلّى مباشرة والجنديّ يقف خلفه. وذات يوم، بينما كان يقود درّاجته الناريّة طلب منه جنود العدوّ التوقّف، فأكمل طريقه غير آبه، فأطلقوا النار عليه وأصابوه في قدمه. لقد كانت مقارعته العدوّ تقوم على كسر إرادته قبل هزيمته. وهكذا عاش طوال حياته».
* تطوّر سريع
كيف طوّر الحاجّ ماجد نفسه، وتحوّل إلى أحد أهمّ المطلوبين للأعداء لقاء مبلغ ماليّ، فضلاً عن إدراج اسمه على لائحة العقوبات الأميركيّة؟ يرتشفُ الأخ ميثم القليل من الشاي كاستراحة من تخبّط مشاعر الحنين والشوق الذي يشعله الحديث عمّن نحبّ، ويخبرنا أنّ الحاجّ أصرّ بشدّة على العمل الجهاديّ بعد استشهاد أحمد، وقد رُفض طلبه مراراً حرصاً على العائلة لكي لا تُفجع من جديد بشهادة ابن آخر. ولكنّ إصراره الشديد على المقاومة، حتّى لو وحده، جعل الإخوة في القيادة يلمسون حماسه ورغبته وشجاعته، فلبّوا رغبته.
ولكن في العمل برز ما هو أهم من الشجاعة: «الحكمة والتفكير الاستراتيجيّ»، فاختاروه للسفر إلى إيران ودراسة منهاج حوزويّ مكثّفٍ مدّة خمس سنوات، ولكنّ تطوّرات الاحتلال الصهيونيّ لقرى الجنوب، دفعتهم للمطالبة بحضوره بعد مضيّ نصف المدّة فقط، فحضر سريعاً وبدأ العمل باسمه الجهاديّ الأوّل «الشيخ صلاح». يتابع ميثم: «والدي استمرّ بتطوير نفسه ومهاراته، فهو قارئ نهم، سريع التعلّم، واسع الأفق».
* ركعتان للتوفيق
ماذا كان يعمل عندما عاد من إيران؟ سألنا أحد رفاق دربه، فأجاب: «في البداية، تابع عمله المعتاد في نقل الأسلحة وتخزينها، فلفت عمله وطريقة تفكيره انتباه السيّد محسن شكر، فبدأ بالعمل معه في الملفّ الصاروخيّ الاستراتيجيّ. وخلال هذه الحقبة الصعبة، كان مبدأ عمله يقوم على أن يسبق العدوّ دائماً بخطوة أو أكثر، ويضع خططه بناءً على توقّعاته لتصرّفات العدوّ الإسرائيليّ».
واصل الحاجّ ماجد عمله حتّى بدأ مرحلة جديدة مع الحاجّ عماد مغنيّة الذي لُقّب بـ «الساحر»، وكان بحقّ قد سحر قلبه بمحبّة خاصّة وعلاقة استثنائيّة. يصف لنا أحد الأصدقاء هذه العلاقة قائلاً: «اتّخذ الحاجّ ماجد من الشهيد عماد قدوةً له في حياته، فكان يتعلّم منه كلّ شيء، مثل طريقة التفكير، وأسلوب التقويم، وكيفيّة اتّخاذ القرار. كان يسير على خطاه خطوة بخطوة، لا عن تقليد أعمى، بل عن حبّ صادق ووفاء عميق. حتّى إنّه كان ينتقل إلى حيث يسكن الحاجّ عماد ليبقى قريباً منه، عادّاً نفسه تلميذاً في مدرسته». يضيف: «لو أنّ الشهيد عماد لم يرَ فيه مشروعاً مهمّاً للمقاومة، لما أولاه تلك المهام الحسّاسة وقرّبه منه بهذا الشكل. فقد فتح له أبواب العمل، ومنحه الصلاحيّات، لأنّه كان يثق بإخلاصه وتقواه؛ إذ كان يبدأ أيّ عمل بركعتَي صلاة بنيّة التوفيق، وكان يتمتّع بصرامة في احترام القوانين، وبروح خلّاقة في ابتكار الأفكار، وبدقّة عالية في التنفيذ، فلا يطرح مشروعاً إلّا بعد دراسة متأنّية من جميع جوانبه، أو بعد إعداد نموذج مصغّر عنه».
* الحاجّ ماجد ومحور المقاومة
نضيف: هذا على مستوى المقاومة في لبنان؟ ماذا على صعيد المحور؟ يبتسم الصديق وهو يستوي في جلسته قائلاً: «آه، هذه قصّة صعبة! فقد تأثّر الحاجّ ماجد كثيراً بعد استشهاد الحاجّ عماد، وخبتْ لفترة جذوة حماسته المتّقدة. غير أنّ عمله إلى جانب القائد الكبير الحاجّ قاسم سليماني أعاد إليه الدفع والقوّة، إذ جمعتهما علاقة شخصيّة طيّبة. أمّا على المستوى العمليّ فقد فتح الحاج قاسم أمامه كلّ الأبواب، وخصّصه بصلاحيّات مهمّة، ونبّهه إلى أنّ جهاده هذا سيقابله العدوّ بالقتل المعنويّ قبل الماديّ، ومنذ ذاك الحين أصبح الحاجّ رحّالاً، في أكثر الأماكن خطورةً، مستعيداً همَّه الأساسيّ: مقارعة العدوّ عبر كسره قبل هزيمته. هذا النهج جعله هدفاً دائماً لمحاولات الاغتيال، كما دفع العدوّ إلى السعي لتشويه صورته واغتياله معنويّاً، خصوصاً مع وصفه بـ (حامل الأموال لحزب الله). لكن في الواقع، كان للحاجّ ماجد سهم وازنٌ في إنجازات محور المقاومة كلّها».
يتابع: «وهنا يجدر ذكر دوره الفعّال وجهاده الاقتصاديّ، خلال أزمة انقطاع مادتي المازوت والبنزين التي مرّرنا بها، وصار اللبنانيّون يقفون في صفوف أمام محطّات المحروقات لساعاتٍ طويلةٍ من أجل تعبئة سيّاراتهم، واتّخذت القيادة قرار استيراد المحروقات من الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة إلى لبنان لكسر الحصار المفروض علينا، ووضعت الملفّ بكامله في عهدة الحاجّ ماجد الذي أمّن المحروقات وأشرف على نقلها وشحنها إلى التخزين، ثمّ التوزيع على المستفيدين بجرأة وشجاعة».
يتابع: «أولويّته العمل، فعندما كان يحتاج إلى إجراء عملية جراحيّة، تحدّد موعدها صباحاً، طلب تغيير المستشفى، لكي يصبح موعد العمليّة عصراً، فيتسنّى له بذلك السفر وإنهاء العمل والعودة وإجراء العمليّة، كلّ هذا في يوم واحد فقط».
* الشهيد سليمانيّ الناصر
سألناهُ: كيف تلقّى الشهيد خبر استشهاد الحاجّ قاسم؟ سكت قليلاً، ثمّ أجاب: «لقد بكاه كما لم يبكِ أحداً من قبل، مع أنّه استشهد ثلاثة من إخوته وعدد كبير من رفاقه. غير أنّ استشهاد الحاجّ قاسم كان مختلفاً، عبّر عنه في مفكّرته بعبارة موجزة كتبها: «فقدان الناصر». شعر حينها أنّ الأعباء التي كان يحملها ازدادت ثقلاً. وقد تزامن ذلك مع متغيّرات اقتصاديّة عميقة في لبنان، ما جعله يفكّر أكثر بأوضاع الناس، وبكيفيّة التخفيف عنهم أعباء المعيشة».
* الحاج ماجد والداً ومربيّاً
نعود بالحديث إلى ابنه ميثم، يبتسم قائلاً: «والدي كان قائداً أينما وُجد، حاسماً في كلّ أمر، لا يرضى إلّا بالنتيجة الكاملة. يحبّ الاتقان والاختصاص، ويطلب من الجميع أن يتقنوا أعمالهم، ولا يتعدّى أحدٌ على اختصاص غيره. وعلى الرغم من انشغالاته الكثيرة وغيابه المتكرّر بسبب السفر، لم يتخلّ عن حضوره في بيت جدّي؛ بل كان حريصاً على أن يكون حضوره نوعيّاً، يسأل ويتابع من بُعد، فكان بحقّ ابناً بارّاً وأخاً سنداً. ومن المعلوم أنّ بيت جدّي بيت مقاومين وشهداء؛ فوالدي كان الشهيد الرابع، وعمّي حسن «أبو زينب» الذي استشهد بعده بيوم واحد، هو الشهيد الخامس. أمّا داخل بيتنا، فقد كان يتابع شؤوننا كلّها بدقّة، ويحرص على توعيتنا وتربيتنا تربية إسلاميّة أصيلة على نهج الإمام الخمينيّ قدس سره. وعلى الرغم من جدّيّته المعهودة، إلّا أنّ حنانه كان يبدّدها، فتعلّمنا منه النظام، وحسن التدبير، والتفكير بإبداع».
* ملامح الشهادة
للشهداء علامات تسبق رحيلهم، فهل ظهر ذلك على الوالد؟ يجيب: «نعم، فقد تغيّر بشكل لافت؛ فالرجل الذي كانت تستفزّه مخالفة بسيطة كإشارة سير، صار يعلّق بهدوء عابر على الأمور. أمّا بالنسبة إليّ شخصيّاً، فآخر اتّصال بيني وبينه كان استثنائيّاً؛ اتّصل بي في مكان عملي، وهذا لم يكن من عادته، خصوصاً في أجواء الحرب. تحدّث معي بمزاح خفيف حتّى إنّني تساءلت بدهشة: هل هذا حقّاً والدي؟». يسكت قليلاً وقد غلبه الحنين، ثمّ يتابع بحسرة: «سألني عن أحوالي، وأوصاني أن أنتبه إلى نفسي. وبعد نصف ساعة فقط، وردني اتّصالٌ أبلغني باستشهاده إثر استهدافه بصاروخ طائرة حربيّة!».
في حقيبته، وُجدت آخر رواية كان يقرأها: «الخاتون كوماندان»، وهي رواية من سلسلة أدب الجبهة الصادرة عن دار المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، فهو الرجل الذي اعتاد أن يبدأ صباحه بقراءة الجريدة مع فنجان قهوة، ولا يدع لحظة تمرّ من دون عمل. كتب في وصيّته الشرعيّة: «كلّ ما ذُكر وما لم يُذكر يعرفه سماحة الأمين العامّ السيّد حسن نصر الله»، ليختم حياته الحافلة بالأسرار، والمقدّرة من الجميع، حتّى من أعدائه، بشهادة طالما سعى إليها منذ أن كان فتىً في دير قانون النهر يصرخ في وجه المحتلّ.