إلى كل القلوب | مقاومتنا روحها حسينيّة (2)* تسابيح جراح| "مستعدّون بجراحنا" الشهيد على طريق القدس محمّد محمود إرسلان وسائل التواصل: معركة الوعي في زمن التضليل مقابلة | حين يرتقي القائد لا تنتهي المقاومة بل تستمرّ بدمه تكنولوجيا | كيف نمنع هواتفنا من التنصّت علينا؟ (1) الملف | أبناء السيّد متكاتفون عوائل الشهداء: أبناؤنا في سبيل الله الملف | أولو البأس في الميدان الملف | الكلمة للميدان

إضاءات فكرية | معادلات النصر في القرآن

الشيخ محمّد زراقط


تمرّ الأمّة الإسلاميّة في أخطر مرحلةٍ من تاريخها الحديث، وقد انقسمت إلى فئتين: واحدة خاضت التجربة بكلّ ما فيها من مخاطر وتضحيات، وأخرى نأت بنفسها قليلاً أو كثيراً، وتنوّعت خياراتها قرباً وبعداً من الفئة الأولى.

وبعد انتهاء الحرب في لبنان، فُتح نقاش حول هذه التجربة وما آلت إليه من نتائج، وحول جسامة التضحيات التي قدّمتها الفئة الأولى. فنشأ سؤال أساسيّ: هل كانت نتيجة هذه التجربة النصر أم الهزيمة؟ هذا ما سوف نحاول الإجابة عنه في ضوء ما نفهمه من كتاب الله تعالى.

* النصر في القرآن
يكشف لنا تتبّع آيات القرآن الكريم عن وجود مصطلحات عدّة تعبّر عن مآل بعض المواجهات التي يخوضها المسلمون في ميدان الصراع بين الحقّ والباطل، وأهمّ هذه المصطلحات هي:

1. النصر: تتكرّر كلمة (نصر) في سياقات مختلفة في القرآن الكريم. وممّا له صلة ببحثنا آيات تعطي النصر بعداً إلهيّاً فتعلّقه على مشيئة الله تعالى: ﴿وَاللَّـهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ﴾ (آل عمران: 13). وفي آية أخرى يحصر الله تعالى النصر به فيقول: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (آل عمران: 126).

2. الغَلَبة: من المفاهيم التي وردت في القرآن الكريم للتعبير عن معنى يشبه (النصر)، مفهوم (الغلبة) الذي ورد في موردين على الأقلّ وذلك في سورة الأنفال- الآية 65، فيقول تعالى: ﴿وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ﴾، وفي الآية 56 من سورة المائدة فيقول سبحانه: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّـهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾.

3. الفوز: من المفاهيم أيضاً مفهوم (الفوز) الذي وصف في عدد من المرّات في القرآن الكريم بالفوز العظيم. وفي عدد من هذه الآيات، ترتبط عظمة الفوز بنيل الرضى الإلهيّ والجنّة، وممّا له صلة بالحرب والقتال، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ... فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111).

* تعدّد المفاهيم ودلالاتها
يكشف لنا هذا الاستعراض السريع للمفاهيم القرآنية ذات الصلة عن مجموعة من الأمور في ما يرتبط بمآلات التجارب التي يخوضها الإنسان المؤمن في حياته الدنيا:

1. الربح والخسارة في الدنيا: لا يعد الله أيّ مجموعة بشريّة بالوقوف إلى جانبها على الدوام، حتّى لو أدّى ذلك إلى تعطيل القوانين والسنن الاجتماعيّة والتاريخيّة، وحتّى لو كان نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم بين هذه المجموعة البشريّة. فقد خاض المسلمون في الصدر الأوّل من تاريخ الإسلام تجارب عدّة؛ ففي معركة بدر، نصر الله المسلمين على الرغم من ضعف عددهم وعدّتهم(2). وفي معركة حنين، لم يحالف المسلمين النصرُ، وهو ما يُظهره قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا﴾ (التوبة: 25). وفي سياق البحث عن السنن والقوانين التاريخيّة والاجتماعيّة، يشير الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره إلى هذا الأمر فيقول: «إذا كانت عمليّة التغيير التي مارسها القرآن والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لها جانبان... يعدّ هذا عملاً تاريخيّاً تحكمه سنن التاريخ وتتحكّم فيه الضوابط التي وضعها الله لتنظيم ظواهر الكون في هذه الساحة المسمّاة بالساحة التاريخيّة؛ ولهذا، نرى أنّ القرآن الكريم حينما يتحدّث عن الجانب الثاني من عمليّة التغيير، يتحدّث عن أناس وبشر...»(3). ويشير في هذا السياق إلى قوله تعالى: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 140).

2. النظر إلى الجانب الآخر: يربّي القرآن الكريم المسلمين على النظر بصورة مختلفة في تقييمهم للأمور والأحداث. مثلاً: عندما يدفع الإنسان زكاة ماله، فإنّ المال لا شكّ في أنّه سينقص، ولكنّ الله يسمّي هذا النقص «زكاة»، وأحد معانيه في اللغة هو النموّ والزيادة. والمصائب التي تصيب الإنسان وتنغّص عليه حياته وتقضّ مضجعه، يدعونا الله تعالى إلى التعامل معها على أنّها اختبار وتجربة لها ما بعدها: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155). وهذه الآية لها صلة مباشرة بالتضحيات التي يمكن أن يقدّمها الإنسان المؤمن في مجال الجهاد، فلا ينبغي النظر إلى بعدٍ واحدٍ من أبعاد الجهاد، أي التكاليف التي يمكن أن تترتّب عليه من خوف ونقصٍ في الأموال والأنفس، بل يدعونا إلى النظر إليها بعينٍ أخلاقيّة أخرى، وهي أنّ ما يقدّمه المؤمن في هذا السبيل هو اختبار وتجربة عليه أن يتجاوزهما مهما كانا جسيمَين. وفي آية أخرى لافتة في هذا المجال، يخبرنا القرآن عن انتكاسة أصابت المؤمنين في إحدى معاركهم مع المشركين فأنزل السكينة على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المؤمنين فيقول: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة: 26).

3. النظر إلى نهاية المطاف: من الأمور التي يربّي الله المؤمنين عليها ويلفت نظرهم إليها، عدم قصر النظر على جولة من جولات الصراع بين الحقّ والباطل، فتاريخ البشريّة من أوّله إلى آخره هو ساحة صراع دائمة بين هذين القطبين، وخبرت الإنسانيّة مراراً وتكراراً جولات في هذا الصراع، واختلفت النتائج بين جولة وأخرى، وتداول أهل الحقّ وأهل الباطل النصر والهزيمة. ووصل الأمر ببعض المسلمين إلى الشكّ في صدق الوعود الإلهيّة بالتأييد والنصرة للمؤمنين حتّى وهم يستظلّون بفيء رسول الله (ص). ومن الوقائع الحسّاسة في تاريخ حركة الإسلام قصّة الحديبية. ففي هذه المحطة التاريخيّة المهمّة كان الظفر وكانت اليد العليا للمؤمنين: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ (الفتح: 24). وفي هذه الواقعة، قرّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاستجابة لدعوة المشركين إلى الصلح والامتناع عن دخول مكّة على الرغم من العزم السابق عليها، ومع أنّ الظفر بحسب الآية كان إلى جانب المسلمين. فوقّع الصلح المعروف بالحديبية، وقد اعترض بعض المسلمين عليه وعدّوه تنازلاً لا ضرورة له؛ ولكن في نهاية المطاف، دخلوا في العام اللاحق إلى مكّة فاتحين، وانحلّ مجتمع الشرك بالكامل، ولم يبقَ من المشركين إلّا الاسم. وتبيّن للمسلمين جميعاً أنّ الوعد الإلهيّ بالنصر والظفر كان مؤجّلاً إلى العام القادم.

* عناصر الفوز
في ضوء النظرة القرآنيّة إلى النصر والهزيمة، لا ضرورة للمكابرة وإنكار الواقع من جهة، كما لا يجوز الاستسلام للواقع إذا لم يكن في اللحظة الراهنة لمصلحة المؤمنين من جهة أخرى. والأهمّ من ذلك هو النظر في تقدير الفوز والنصر إلى المشهد كاملاً، والذي من أهمّ عناصره: الفوز بأداء التكليف الإلهيّ، والاستعداد للتضحية مهما كانت التكلفة، والنظر إلى تكاليف العدوّ على المستويين العاجل والآجل، والنظر إلى أهدافه وغاياته وما كان يبتغي تحقيقه. وفي نهاية المطاف، نحن أتباع السلالة النبويّة الشريفة محاطون بفكرتين لهما أكبر الأثر على نظرتنا إلى الأمور وتقييمنا لها، وهما: التضحية والاستعداد لأداء التكليف مهما كان الثمن، وكربلاء خير دليل على ذلك، والأمل بالغد المشرق المتمثّل بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.


(1) سورة التوبة: الآية 72.
(2) ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ (آل عمران: 123).
(3) المدرسة القرآنيّة، السيّد الصدر، ص 37.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع