نسرين إدريس قازان
اسم الأمّ: فاطمة غندور.
محلّ الولادة وتاريخها: برج قلاويه 14/2/1997م.
الوضع الاجتماعيّ: عازب.
مكان الاستشهاد وتاريخه: حلب 3/11/2016م.
لم يمرّ اسم "قاسم شمخة" مرور الكرام عند استشهاده، فمن لم يعرفه فُجع به كمن عرفه، وكأنّ سقوطه لم يكن على أرض حلب، بل في قلوب الناس، فاحتلّت ابتسامته، وعيناه الصغيرتان الغائرتان خلف ضحكته، صفحات مواقع التواصل الاجتماعيّ، وليس ذلك الحبّ إلّا سرّ من أسراره الكثيرة التي كُشف القليل منها، وكثيرها بقي مجهولاً.
* طفولة وشقاوة
قاسم، رزقُ والديه على الكِبر، وكم كان رزقاً عظيماً، فصغيرهما سيكون جسر عبورهما إلى الجنّة، تربّى وإخوته في بيئة محافظة وملتزمة، مغموراً بالدلال وتلبية طلباته، وهو المشاغب الذي لا يتعبُ من اللعب، فلا شيء يبقى على ما هو عليه، وهو يكادُ يمشي على يديه لشقاوته؟!
كلّما كبر قاسم، زاد تعلّق والديه الكبيرين في السن به، فقد ملأ حياتهما بهجة وسروراً وحناناً، وسعى إلى خدمتهما وتدثيرهما بعاطفةٍ لافتة.
* لاعب رياضيّ
في عمر السنتين، لاحظ أخوه الكبير، الذي كان يعامله كابن له، عِشق "صغيره" لكرة القدم، فاهتمّ مباشرة بهواية أخيه، الذي ما إن كبر قليلاً، حتّى ألحقه بنادٍ ليتدرّب ويطوّر مهاراته، وكان دائم التشجيع والتحفيز له، فكان ذلك فرصةً لتفريغ الطاقة المشتعلة في قلب ذلك الطفل. ولمّا صار في عمر المراهقة، برز كأحد اللاعبين المتميّزين في ناشئة نادي العهد الرياضيّ، وتعرّف بمساعدة أخيه إلى لاعبين عالميّين في إسبانيا والتقط صوراً تذكاريّة تجمعه بهم. وعلى الرغم من أضواء الشهرة تلك، لم يغادر قاسم غصنه، ولم ينفصل عن بيئته الملتزمة والمقاومة، فكان يرافق أصدقاءه إلى المسجد للصلاة في أحد مجمّعات برج البراجنة حيث سكنه، وكانت هذه المواظبة الدائمة على الحضور في المسجد، للصلاة والدعاء وحضور المجالس الحسينيّة واللطم، بوّابة كلّ خير في حياته.
* تأسيس رابطة المشجّعين
صبَّ قاسم تركيزه على تطوير مهاراته الكرويّة، فاحترف اللعب شيئاً فشيئاً، وأدرك أنّ الملعب يحتاج إلى تركيزٍ عالٍ، يجب أن لا تشتّته الحماسة المتوقّدة داخله. ولأنّه شخص يعشقُ ضجيج الرفاق، أسّس رابطة مشجّعي نادي العهد الرياضيّ، فاصلاً دوره كمشجّع عن كونه لاعباً محترفاً في صفوفه. وكم شابهت "أوركسترا" التشجيع التي قادها روحَه المستأنسة بضجيج الناس، الراغبة دوماً في إشعال الحماسة في النفوس، فتراهُ يقف وسط الجمهور صارخاً بالشعارات التي تزيد من حماسة اللاعب في الملعب.
وكما في الملعب كذا في الحيّ حيث يسكن، إذ كان قاسم عبارة عن كتلة من الحماس والنشاط، فلم يعرف أحد كيف يمكن لفتىً أن يحوّل أيّ مكان يحضر فيه إلى كتلة مليئة بالضجيج المؤنس!
* حماس جهاديّ
باكراً التحق قاسم بالدورات العسكريّة، وخضع لدورات سريعة أهّلته للمشاركة في حرب الدفاع عن المقدّسات. وفي الوقت الذي كانت فيه مباهج الدنيا تحيطه من كلّ جانب، اختار أن يتوجّه إلى سوريا، حيث صقيع الثلج في الجبال الوعرة، والحرّ اللاهب في الصحراء، والغربة القاسية في مناطق مجهولة. لقد تخلّى قاسم عن كلّ ما قد يتمنّاه أيّ شابّ في سنّه ويطمح إليه.
وظّف قاسم حماسه الرياضيّ في أرض الجبهة، فترجمه استبسالاً وإقداماً في القتال دفاعاً عن المقدّسات. ومن ملاعب فريق العهد، التي قرّر أن يغادرها منتقلاً إلى ملاعب فريق برج البراجنة، انتقل أخيراً إلى عهده الأبقى، هناك في المحاور، حيث شارك في الكثير من المعارك والمواجهات. وكما كان في حياته الاجتماعيّة خفيف الظلّ، ومزوحاً، وسخيّاً، كان كذلك في المحور. وقد برزت فيه صفة لافتة، وهي سرعة تعلّقه بأشخاص كانوا سرعان ما يستشهدون، منهم قائده المباشر الحاجّ أحمد حرب، الذي استشهد فيما كان قاسم معه.
* مهبط الحزن
كلّ الساعات الصعبة في الجبهة كان قاسم يتجاوزها بروحه المرحة، وبضحكته الرنّانة، وأخباره الجميلة. ولكن كلّ ذلك الضجيج، لم يعد يأنس به بعدما خيّم الرحيل على وجوه أحبّته، وصارت روضة الشهداء مهبطَ حزنه، وكان يقصد قاعة الحوراء زينب عليها السلام للّطم، ويحرص على أن لا تفوته حلقة لطم أثناء وجوده في لبنان، فتغسل الدموع وجنتيه، وهو يرفع كلتا يديه صارخاً: "نحن قوّة حسينيّة حيدريّة لن تنهار، لبّيك يا زينب"، فيجيب الجموع خلفه بالتلبية والنداءات.
* آخر الإشراقات
في الأشهر الأربعة الأخيرة، لم يلتقِ قاسم كثيراً بوالديه لأنّهما كانا في القرية، فكان يحادثهما على الهاتف، حتّى طُلب إليه الالتحاق بجبهة حلب، فزارهما على عجل. ولمّا رأته أمّه، رقّ قلبها خوفاً عليه، فلاحقت ابنها بالأسئلة التي لم تطمئن أجوبتها ذلك القلب الذي شعر أنّها آخر إشراقات ضحكة "طفلها"، وما أكّد لها ذلك هو الوداع الغريب الذي ودّعهما به؛ فقد ضمّهما إليه كثيراً، وطلب منهما الرضى. ولمّا صعد في السيّارة، عاد وترجّل منها ليضمّ أمّه إلى قلبه مرّةً ثانية.
* ليلة الوداع
عاد قاسم إلى بيروت ليحضّر حقيبته، وكان كمن يحضّر نفسه للزفاف. اتّصل بإخوته والتقى ببعضهم وودّعهم. وبينما هو يسهر مع أخته، أخبرها أنّ في ذمّته نذراً للسيّدة فاطمة عليها السلام مع وليمة، وأوصاها أن تنفّذها إذا لم يعد، فبكت وقد اشتعل قلبها بنار الفقد، وشعرت بأنّ هذه الليلة هي الأخيرة لقاسم معها. وبينما هو مستلقٍ على الكنبة، إذ به ينهض مسرعاً ليسجد سجدة طويلة، وما إن رفع رأسه، حتّى تجلّى النور في جبهته.
* شوقٌ إلى أهل البيت عليهم السلام
في حلب، كانت المعركة شديدة القساوة والصعوبة. وبينما كان قاسم ورفيقه يحرسان أحد الأماكن بعد معركة وتقدّم دامٍ، قال قاسم أنّه يشتاق كثيراً للسيّدة الزهراء عليها السلام، وهو في غاية الشوق ليرى الإمام الحسين عليه السلام. قضى آخر ساعاته يبثّ شوقه لأهل البيت عليهم السلام ويتحدّث عن الشهادة، ثمّ قال له ممازحاً: "إذا استشهدت، هل سيرتدي لاعبو العهد قميصاً عليه صورتي؟". وبعد أن أنهى المزاح والضحك، أكمل قائلاً إنّه بقدر ما سيكون سعيداً بنيله الشهادة، بقدر ما يخاف على والديه، وقلبي أخويه سمير ومصطفى اللذين ربّياه، فحزنهم "يكسر ظهري" كما عبّر.
* في قلوب الناس
وكانت تلك ليلة الشوق الأخيرة. وهناك على أرض حلب، نزف قاسم شمخة دمه الذي سرى حبّاً في قلوب كلّ الناس، وصارت صورته تملأ الأمكنة، وليس فقط قمصان لاعبي فريق العهد. لقد صدق قاسم ما عاهد الله عليه، ذلك الشابّ الذي لم يبلغ العشرين من عمره، ولم تترك له الدنيا حبلاً إلّا ومدّته له، ولكنّه لم يتعلّق إلّا بحبل الله.