لا تعدّ التسمية حقيقيّة، إلّا إذا ظهرت سمات الربوبيّة في السالك، والتي تتمظهر بالرحمة الرحمانيّة والرحيميّة. ومن تجلّيات هذه الأخيرة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
* الأمر والنهي الصحيحان
لا بدّ للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من أن يذيق قلبه شيئاً من الرحمة الرحيميّة، ولا يكون نظره وهدفه من الأمر والنهي التباهي بنفسه، والتكبّر، وفرض أمره ونهيه؛ لأنّه إن مشى بهذا النظر والهدف، فلن يتحقق المرجوّ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -وهو حصول سعادة العباد وإجراء أحكام الله في البلاد- بل ينتج عنهما عكس ذلك، وتزداد منكرات عدّة لأجل أمر أو نهي يصدر عن جاهل، ويقع من جهة الهوى النفسيّ والتصرّف الشيطانيّ. وأمّا إذا كانت دواعي الإنسان إرشاد الجاهلين وإيقاظ الغافلين، فإنّ حسّ الرحمة والشفقة وحقّ الأخوّة أمورٌ تقتضي البيان والإرشاد المترشّحين من القلب الرحيم، على نحوٍ يؤثّر في الموارد اللائقة تأثيراً حسناً، ويُنزل القلوب الصلبة القاسية عن استكبارها واستنكارها.
* ﴿إِنَّهُ طَغَى﴾
يا للأسف! إنّنا لا نتعلّم من القرآن، ونظرتنا إلى هذا الكتاب الكريم الإلهيّ ليست نظرة التدبّر والتعلّم، واستفادتنا من هذا الذكر الحكيم قليلةٌ وضئيلة، ففكّر الآن في الآية الشريفة: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (طه: 43-44)، تنفتح لك طرقٌ من المعرفة، وتنفتح أمام قلبك أبوابٌ من الرجاء.
إنّ فرعون الذي قد بلغ من الطغيان إلى حدّ أنّه قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ (النازعات: 24) وبلغ علوّه وفساده إلى درجة نزلت فيه الآية: ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ﴾ (القصص: 4)، فبمجرّد أن رأى مناماً، فسّره الكهنة والسحرة بأنّ موسى بن عمران عليه السلام سيأتي، فرّق بين الرجال والنساء، وذبح الأطفال الأبرياء، وأفسد ذلك الفساد. من جهةٍ أخرى، فإنّ الله الرحمن نظر برحمته الرحيميّة إلى جميع المخلوقات على وجه الأرض، فانتخب من نوع البشر أشدّهم تواضعاً وأكملهم، انتخبه نبيّاً عظيم الشأن، ورسولاً عالي المقام، مكرّماً كموسى بن عمران عليه السلام، وعلّمه وربّاه بيده التربويّة، كما قال تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (القصص: 14)، وشدّ ظهره بأخٍ كريمٍ مثل هارون عليه السلام. لقد انتخب -تبارك وتعالى- هاتين النخبتين في العالم الإنسانيّ، حيث قال تعالى: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾ (طه: 13).
* ﴿لعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾
بالجملة، إنّ الله تبارك وتعالى -بعد هذه التشريفات- هيّأ الأرضيّة وروّض موسى عليه السلام الكليم بالرياضات الروحانيّة، كما قال تعالى: ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾ (طه: 40). وأرسله سنين في خدمة شعيب عليه السلام شيخ طريق الهداية، والمرتاض في عالم الإنسانيّة، كما قال تعالى: ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى﴾ (طه: 40)، ثمّ بعثه للاختبار والافتتان الأعلى إلى وادٍ، في طريق الشام، وأضلّه الطريق، وأمطر عليه المطر، وغلَّب عليه الظلمة، وعرّض زوجته للمخاض، فإذا أُغلقت عليه جميع أبواب الطبيعة، وضجر قلبه من الكثرات، وانقطع إلى الحقّ بجبلّة الفطرة الصافية، وانتهى السفر الروحانيّ الإلهيّ في ذلك الوادي الظلمانيّ غير المتناهي، آنس من جانب الطور ناراً، إلى أن قال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (القصص: 30). بعد هذه الامتحانات الكثيرة والتربية الروحانيّة المتكثّرة، هيّأه سبحانه لأن يدعو ويهدي ويرشد وينجي عبداً طاغياً باغياً، أفسد في الأرض ذلك الفساد الكبير. وكان بإمكانه -تعالى- أن يحرقه بصاعقة غضبه، ولكنّ الرحمة الرحيميّة ترسل إليه رسولَين عظيمَين، ويوصيهما تعالى في الوقت نفسه أن يقولا له قولاً ليّناً؛ لعلّه يتذكّر الله أو يخشى من عمله وعاقبة أمره. هذا هو دستور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه كيفيّة إرشاد مثل فرعون الطاغوت.
* بقلبٍ رحمانيّ ورحيميّ
فإذا أردت أيضاً أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وترشد خلق الله، فتذكّر هذه الآيات الشريفة التي أُنزلت للتذكّر والتعليم، وتعلّم منها. القَ عباد الله بقلبٍ مملوءٍ بالمحبّة وفؤادٍ عطوف، وكن طالباً لخيرهم من صميم القلب، فإذا وجدتَ قلبك رحمانيّاً ورحيميّاً، فقم بالأمر والنهي والإرشاد؛ كي يُليّن برقُّ عطف قلبك القلوبَ القاسية، وتليّن رحمتُك حديدَ القلوب، بالموعظة الممزوجة بنار المحبّة.
(*) مستفاد من كتاب: الآداب المعنويّة للصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، المصباح الثاني، الفصل الرابع.