الشهيد مرتضى مطهري رحمه الله
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أول الدين معرفته".
ذكرنا في العدد السابق، في شرح الحديث أن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بدأت من قول
"قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا"، وورد أن معرفة الله هي جوهر الوجود الإنساني التي تكتسب بها القيم الأخلاقية، فيما سيبيّن هذا المقال ارتباط هذه الفضائل بما يعتقده الإنسان ويؤمن به.
*أصلٌ ثابت
لكل شيء بداية وأساس، فإذا نهض واشتد وأثمر فإنما يعود الفضل إلى نقطة البداية وإلى ذلك الأساس. فالدين ذلك النظام الشامل بعقيدته وفكره وأخلاقه إنما يبدأ من نقطة واحدة ويرتكز على ركن واحد، فإذا انطلق من تلك النقطة ونهض على ذلك الأساس فإنه ينهض قوياً متيناً ومفيداً، وتلك هي معرفة الذات الإلهية المقدّسة والإيمان بالأحديّة المطلقة.
فالإيمان بالنبوة أو الاعتقاد بالمعاد مع أنهما أصلان ضروريان في الدين إلا أنهما أيضاً بمثابة غصنين متفرعين من ذلك الجذع والأصل الثابت، التوحيد، لأن "للعالم مالكاً هو الله" يدبّر الوجود ويسوقه نحو الكمال، كما أن البشرية أفراداً كانوا أم مجتمعات بحاجة إلى من يهديهم ويدلّهم عن طريق "الوحي والإلهام" وبواسطة بعض النفوس البشريّة الطاهرة التي هي بمثابة علامات هداية وإرشاد حيث تتجلّى بالأنبياء والرسل. وبما أن أصل التوحيد ثابت فهو بمثابة الجذع الذي تتفرّع عنه الأغصان والأوراق والثمار. فالموجودات تتحرك نحو الكمال المنشود، والوجود الإنساني يحمل في أعماقه إشارات النشأة الأخرى وهو عالم الآخرة.
قد يوجد بعض الناس ممن يغالون في إيمانهم بالأنبياء، ينظرون إليهم على أنهم آلهة صغار يعبدونهم من دون الله. إن مثل هذه العقائد إنما تنشأ عن خلل في الأساس الأول وهو التوحيد وعن قصور في معرفة الله سبحانه، وإلّا فكيف يمكن للإنسان أن ينصرف إلى عبادة إنسان لا يملك من نفسه ضراً ولا نفعاً، على حدّ تعبير القرآن الكريم، أو يشرك بعبادة الله مَن ليس بيده موت ولا حياة ولا نشور؟
*أصل ثماره الفضائل
كذلك فإن سائر أغصان وأوراق وثمار الدين إذا ما نبتت في أصل التوحيد، استقامت وآتت أُكُلَها، أما إذا لم تتصل بذلك الجذع فإنها لن تؤتي ثمارها المرجوّة. على سبيل المثال، فإن واحدة من هذه التفرعات وفي مرحلة التطبيق التي يوجبها الدين هي مسألة احترام حقوق الآخرين. إن أصل التوحيد يقضي بأن الله عادل وحكيم وبصير، وأن الله وكما نصّ القرآن الكريم، يأمر بالعدل والإحسان والإيثار والتضحية ورعاية الآخرين. كما أن الله العادل الحكيم ينهى عن الأعمال القبيحة والسيئة والأعمال التي يستقبحها العقل.
ولكننا نجد في الماضي والحاضر وفي المستقبل أيضاً أناساً يرتكبون الفحشاء والمنكر والعدوان ومع ذلك يدّعون أنّ الله قد أمر بذلك وأن ما يقومون به يوافق الموازين الشرعية والأحكام الدينية. يقول سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: 28).
إن هذه الآية الكريمة تشير إلى أنّ هؤلاء الناس لو أدركوا التوحيد ولو أدركوا أنّ الله عادل وحكيم لما تفوّهوا ببدعهم أبداً، ولما قالوا إنّ أعمالهم تلك تنطبق على موازين الدين. إن الله سبحانه لا يرضى أن يعيش بعض الناس كَلّاً على الآخرين وأن يكون عبئاً على المجتمع دون أن يفكّر بتخفيف أعباء الآخرين. إنّ رضى الله يكمن في تنفيذ أوامره.
*ألف باء الدين
أجل، إنّ ألف باء الدين هي معرفة الله. فكما أن التلميذ في المدرسة إذا لم يدرك المعلومات الأساسية التي تؤهّله لقراءة الكتب فإنه سيكون عاجزاً تماماً عن إدراك مسائل الطبيعة والرياضيات والأدب، فالتلميذ إنّما يتعلم أولاً الحروف التي تتألّف منها اللغة، فإذا لم يتعلم ذلك فإنه سيكون عاجزاً عن القراءة وبالتالي فإنه سوف لن يفهم أيّاً من الدروس.
إن معرفة الله هي بمنزلة الحروف الأولى في الدين. فمن عرف الله تمكّن من قراءة خطّ الدين وأدرك المرامي التي ينشدها. أما إذا لم يدرك تلك الحروف فإنه سيخطئ في قراءة الكلمات وأوامر دينه ومن ثم سيخطئ في ترجمتها في سلوكه وسيصل به الأمر إلى ما عبّر عنه القرآن في قوله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ (الكهف: 104)، ولذا قال الإمام علي عليه السلام: "أول الدين معرفته". ومعرفة الله ليست أول الدين فحسب، بل وسطه وآخره أيضاً. والذات الإلهية المقدسة هي أول الوجود وآخره، مع جميع الموجودات، ومحيطة بها. وإذا أصبح الإنسان موحِّداً حقّاً، لَهَوَتْ نحوه جميع الفضائل وانجذبت إليه.