سكنة حجازي
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين﴾َ [الأعراف/85].
﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ [الأعراف /88-89].
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود/88].
النبي شعيب عليه السلام خطيب الأنبياء عليهم السلام هكذا سمّاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وذلك لكثرة إنذاره لقومه ومبالغته في عظمتهم.
هو من الرسل المكرمين عند الله تعالى وقد أشركه الله تعالى فيما ثناه من الثناء الجميل في كتابه الكريم عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.
هذا، وقد روى عنه تعالى كثيراً ممّا كان يتمتّع به من المعارف والعلوم الإلهية والأدب البارع من ربّه، ومع الناس.
وقد أمضى الله تعالى له الصفات التي وصف بها نفسه وحكاها عنه، فقد سمى نفسه الرسول الأمين ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ [الشعراء/178]، والمصلح ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود /88].
بعد أن دعا هذا النبي الكريم قومه إلى التوحيد وإلى العمل بهذا الدين قبل نزول العذاب وتحقّق الهلاك، ولما كان العمل بالدين يقتضي عدم الإفساد في المعاملات، كالتطفيف في الكيل والخسران في الميزان والفساد في الأرض، وبعد أن بالغ في النصيحة، لم يجد في قومه غير الصدود والإعراض والاستكبار على الله تعالى، فلم يسترشدوا بما أرشدهم نبيهم بل عتوا في أنفسهم ولم ينتظروا حكم الله تعالى وقد أجابوه مهدّدين متوعدين له وللذين آمنوا معه قائلين: ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِين﴾َ.
لم تكن لهم حجة يحتجون بها إلى قوتهم المزعومة فما كان جواب شعيب عليه السلام لهم؟ قال ﴿لَوْ كُنَّا كَارِهِين﴾، إنّه يكره العود إلى ملّتهم ملة الشرك وهذا لا يعني أنّه كان عليها، فهو النبي المعصوم الذي لا يشرك بالله طرفة عين، لذلك الخطاب جاء بالجمع لأنّ الذين آمنوا معه كانوا مشركين ثمّ آمنوا بدعوته عليه السلام، ورسخ الإيمان في قلوبهم فلا يمكن أن يعودوا إليه.
ولكن كيف كان أدب هذا النبي المصلح مع الله تعالى – وهو موضوع حديثنا - في خطابه له؟ قال: ﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ﴾.
لقد علّل عدم العود بالافتراء كذباً على الله سبحانه وتعالى وذلك بنسبة الشركاء إليه وما يتبعها من الأحكام المفتراة في دين الوثنية.
ثم تابع أدبه البارع فقال: ﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ فإذا كان هو لا ينوي العود ولا يريد الشرك مع من آمن معه، ولكن القطع والجزم في العزم على أمر معين خصوصاً من هذا النوع – عدم الشرك – هو بعيد عن أدب النبوة، إذ لا يقطع نبي ولا يجزم من نفسه لذا قال: ﴿أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَاَ﴾ فهو الذي ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ﴾ حتّى لا يكون من الجاهلين بمقام الله تعالى – وهو العارف به – ردّ المشيئة إليه تعالى، إذ إنّ الإنسان قد يذنب ذنباً أو يخطئ خطأ يستحق عليه إبعاده من العناية الإلهية فيعاقبه المولى بإخراجه من دينه ويهلكه في الضلال. فانظر إلى تعبيره: ﴿اللّهُ رَبُّنَا﴾ بما تحمل من معنى الإعتراف بالألوهية – العبودية – ثمّ إيكال التدبير إليه ﴿رَبَّنَا﴾.
ولم يقف عند هذا الحد بل توجّه بكلّ خضوع وأدب يسأله أن يكفيه ويكون حسبه ﴿عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَاٍ﴾ فإن من يتوكّل على الله كان حسبه بل صانه من شرّ كل ما يخاف، وهو الواثق المطمئن بل المتيقن من هذا.
وبعد أن رأى عزم القوم على مرادهم متمادين في عتوهم وكفرهم توجه إليه تعالى بالسلاح الذي ملكه إياه ﴿ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ .
الفتح بين شيئين يستلزم إبعاد كلّ منهما عن الآخر، ولم يبين الناجي من الخاسر ولكنه طلب الفصل بالحق وتأدّب بإرجاع الأمر في ذلك كلّه إلى الله تعالى كما قال سابقاً ﴿اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾َ قال هنا ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾.
ومرة أخرى، يظهر لنا أدبه عليه السلام وذلك ببيان نعمة الله عليه وما رزقه من الإيمان والبينات وهي ما شملته العناية الإلهية بالرزق الحسن ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب﴾ُ
والمقصود بالرزق الحسن هنا – والله العالم – ما خصّه به تعالى من وحي النبوة المشتمل على أصول المعارف والشرائع ثمّ يظهر عدم اختيار الإنسان قبال الله تعالى باعتباره المالك له فله أن يأمره بما يشاء، وله الحكم وإليه ترجعون (والحرية هنا لا بمعنى الإجبار على الفعل. ولكنّها عدم الاسترسال في التعدّي على حقوق الآخرين باسم الحريّة من التطفيف والخسران في الميزان).
ويستشعر هذا النبي المصلح النقص والقصور تجاه الله، وكلّنا الفقراء إليه تعالى حتّى الأنبياء (وما توفيقي إلاّ بالله..) مع أنّ هذا تدبير لشؤون المجتمع وصلاحه ولكن هو الله سبحانه الذي لا غنى عنه ولا مخرج من إحاطته ولا استقلال في أمر دونه، فهو الذي أعطاه ما عنده من الاستطاعة، إذاً هو الذي يوفّق الأسباب إلى طريق الاستطاعة.
فالله تعالى هو الذي أبدع الأشياء وأعمالها والروابط التي بينها وأظهرها بالوجود. وهو الذي قبض على كلّ شيء فأمسكه وأمسك آثاره والروابط التي بينها أن تزول وتغيب وراء ستر البطلان.
ولازم ذلك أنّه تعالى وكيل على كلّ شيء في تدبير أموره منسوب إليه تعالى تحققها وتحقّق الروابط التي بينها كما أنّه محيط بها قاهر عليها. لذا كان من الواجب على العبد، العالم بربّه العارف بهذه الحقيقة أن يمثلها بإنشاء التوكل عليه والإنابة والرجوع إليه، لذلك ذكر شعيب عليه السلام أن توفيقه بالله وعقب عليه بإنشاء التوكل والإنابة فقال: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب﴾.
فائدة:
إنّ توفيق الله تعالى أو خذلانه من صفاته الفعلية، فالتوفيق هو نظمه الأسباب بحيث تؤدي بالعبد إلى العمل الصالح، أو عدم إيجاده بعض الأسباب التي يستعان بها على المعصية. والخذلان خلاف ذلك. لذلك كانت الأسباب وإيجاد التوافق بينهنا هو توفيق من الله تعالى أمّا إن وصف العبد بأنّه هو الذي يقوم بالعمل فهذا مظهر من مظاهر الأسباب ليس إلاّ.
نسأل الله تعالى أن يهدينا سبيل الهدي ويهيئ لنا أسباب الطاعة ويوفقنا لمرضاته والتوكّل عليه إنّه حسبنا ونِعم الوكيل.