نسرين إدريس قازان
اسم الأمّ: سعدى حجازي.
محلّ الولادة وتاريخها: محيبيب 9/3/1954م.
الوضع الاجتماعيّ: متأهّل وله 5 أولاد.
رقم السجل: 22.
مكان الاستشهاد وتاريخه: حارة حريك - أصيب بتاريخ 21/1/2014م، واستشهد بتاريخ 15/12/2019م.
في كفّيه نبتَ الدحنون المعطَّر بذكريات الزمن الجميل. كان ذلك أوّل زرعه الذي أينع، وأوّل انتصاراته، وإن أدمت قلبه! فحكاية دحنونَي الجنوب "الشهيدَين محمّد وأحمد حجازي"، كان الحاج "رضا" حبرها وورقها؛ فهو الأخ الأكبر، القدوة والمحتذى، وخصوصاً لمحمّد، فأينما كان الحاج رضا، ارتسم ظلّ محمّد، يسمع ويعي، ويتعلّم. وحذا حذوه أخوهما أحمد، الذي سرعان ما انضمّ إلى السرب المحلّق في فضاء اللبنة الأولى للتديّن الأصيل، وكلاهما كانا نجمَين في سماء الجهاد.
•متخطّياً الصعوبات
أدرك "رضا"، الشاب الذكيّ، الذي قطع مسافات طويلة للدراسة والتحصيل العلميّ، أنّ الحياة تشبه كثيراً طريقه اليوميّ ذاك بوعورته وصعوبته، وخصوصاً أنّ مؤشّرات الحرب الأهليّة بدأت بالظهور، فصار الرحيلُ من منطقة "النبعة" بالنسبة إليه ليس واقعاً مرّاً فحسب، بقدر ما هو منجاة من مذابح تتراصف واحدة تلو الأخرى. وكان ذلك الخروج هو بوّابته إلى المقاومة الفلسطينيّة التي سرعان ما انضمّ إليها والعديد من رفاقه؛ للتدرّب على السلاح، ولرصّ صفوف الشباب المؤمن.
•من المؤسّسين الأوائل
أن تصنع من نفسك شابّاً متديّناً أصيلاً في زمن تشويه الدين، ومقاوماً في عصر الظلم والهوان، هو إنجازٌ عظيم، فكيف إن كنت بموازاة ذلك، قدوةً لمن لم يملك إلّا روحه ليقدّمها في سبيل الإسلام؟ وكذا كانت بداياتُ "رضا"، الشابّ الخلوق المهذّب، الخفيف الظلّ، الحارثِ للعقول والنفوس، الذي امتطى صهوة العلم ليؤدّي خير العمل، فراح يتنقّل بين الدروس والكتب الدينيّة، وبين فكر الشهيد دستغيب والشهيد السيّد الصدر، وينهل من ثورة الإمام الخمينيّ قدس سره ما يشدُّ به أزره، وإن كانت حلقات الدروس آنذاك مُحاربَةً ومُحاصَرةً، إلّا أنّ اليقين والصبر جعلاها لاحقاً واقعاً وحياةً، و"رضا" من أولئك الشباب الذين أسّسوا لهذا الواقع. ومع انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، سارع ورفاقه للالتحاق بركب الزائرين المباركين بالانتصار العظيم، وكان من ضمن الوفد الذي وضع حجر أساس قيام المقاومة الإسلاميّة في لبنان.
•صوت المقاومة
التحق "رضا" بالجامعة لدراسة الكيمياء، ولكنّ ظروف البلد الاقتصاديّة والأمنيّة، أجبرته على السفر إلى إحدى دول الخليج، ليعيل أسرته. لكنّه لم ينسَ هناك العمل المقاوم في لبنان الذي بذل ما يمكنه لدعمه، إلى أن قرّر العودة إلى ربوع الوطن والالتحاق مجدّداً بصفوف المقاومين.
• وسام فخر
بعد عودته، كان "رضا" قد صار أخاً لشهيدَين في المقاومة الإسلاميّة. وتحوّل الأخ القدوة إلى مُقتدٍ بصغيرَين كبرا سريعاً، وصار اسمَاهما وسام فخر على صدره.
بدأ مزاولة عمل تنظيميّ، ولكنّه سرعان ما شعر أنّ البقاء في المكتب قد يبعده عن الهدف الأساسيّ له: "الشهادة". لذلك استغلّ بعض الأوقات للالتحاق بالمجاهدين والمرابطة معهم، وظلّ كذلك حتّى تحرير العام 2000م، وكانت عودته إلى قريته "محيبيب" المحاذية لفلسطين المحتلّة أحد أحلامه التي حقّقها.
•مفتاح اليُسر
تميّز الحاجّ "رضا" بشخصيّته الاجتماعيّة الجامعة، وقدرته على التقريب بين وجهات النظر، وتأثيره في من حوله بحكمة آرائه ونصحه، مضافاً إلى تواضعه وزهده اللافتَين، فهو وإن تقلّد خلال مسيرته الجهاديّة العديد من المناصب في مراكز مختلفة، وقدّم خدمات متنوّعة، إلّا أنّ شيئاً لم يتغيّر في ذاك الإنسان المتواضع الخلوق، الحامل بين جنبَيه عبق الزمن الأصيل.
حرص الحاجّ "رضا" على خدمة والدَيه بتفانٍ وبأسلوب لافت، فقد اهتمّ بأدقّ تفاصيلهما حتّى الرمق الأخير، وكذا الأمر مع إخوته، فهو الخدوم، المتفهّم، المساعد، والناصح، وقد اشتهر بجملة: "توكّل على الله، مشي حالك"، التي طالما أرخت الطمأنينة في قلوب مَن حوله، وكان ذلك مفتاح اليُسر، فلا يحمل همّاً ولا يبالي بعسر.
•الحريص على المسيرة
أسّس الحاج "رضا" أسرةً مجاهدة، ورُزق بخمسة أولاد، وكان همّه الوحيد هو صناعة أبناء مجاهدين، فتكاتف وزوجته لتحقيق هذا الهدف، ولم يتعب ولم يَهِن، فصادقهم، وتقاسم معهم الأحلام والطموحات، وحمل عنهم إحباطات الدنيا وغدرها، فساندهم لتجاوز الصعاب. كان الحاج "رضا" يركن في بعض الأحيان إلى الحسرة التي كبرت معه، وهي بُعده عن الجبهة، وخصوصاً بعد إعلان حرب الدفاع عن المقدّسات، التي كان يراقبها ويتابع تفاصيلها بدقّة، مضافاً إلى الغضب الشديد الذي اعتمر قلبه جرّاء البدء بالتفجيرات الإرهابيّة في لبنان، واستهداف المجتمع الآمن، إلّا أنّ خبر تحرير مدينة القصير غمر قلبه بالسعادة، واسبتشر خيراً به؛ لأنّه أدرك أنّ هذا الانتصار هو بدء العدّ التنازليّ لانتصار جديد.
•ظنّها فاتته!
مضت الحياة بكلّ أحداثها وكأنّها حكاية أسطر قصيرة، زخرت بالتفاصيل الجميلة والحزينة، بالنجاحات والإخفاقات، راقبها الحاجّ "رضا" بقلبه المطْمَئنّ، الذي لم يتحسّر على شيء إلّا "الشهادة"، التي ظنّها فاتته!
كبر الأولاد، وكان يوم زفاف ابنته، وأيّ سعادة غمرت قلبه وهو يمسك بيدها ويمشي إلى جانبها، وفستانها الأبيض يلتفّ حوله! إلّا أنّ الفرصة هذه لم تدم طويلاً!
ففي اليوم التالي، أصاب سيّارته عطلٌ ما. وعندما خرج من عند الميكانيكيّ، التفت إلى أنّه نسي المفاتيح داخلها، فعاد أدراجه. وبينما هو يأخذها، إذ به يشعر أنّه يطير، وهو يصرخ: "الله أكبر". وعندما سقط أرضاً، زحف إلى مدخل أحد المباني، وحاول إخماد النار التي نهشته.
خضع لعمليّات استغرقت سبع ساعات متواصلة. وعندما استفاق، رأى أفراد أسرته يتحلّقون حوله، وقد استغرب نجاته، وكيف أنّ الشهادة لم تُكتب له، وطلب من ابنه أن يكمل مشروع الزواج الذي همَّ به، وكأنّ ذلك الاستيقاظ كان محطّة الوداع الأخير بينه وبين أحبّائه، فضمّ صبره ووجعه بسبب الحروق البالغة، وشرايينه المقطّعة، ومضى في غيبوبة استمرّت لخمس سنوات وأسبوعين، قاسى خلالها ما قاساه، إلى أن نال ما تمنّاه بحقّ، فهنيئاً له من عاشقٍ لم يملّ الانتظار، وطوبى لمن ربّى الشهداء والتحق بهم.