* الاقتداء عملياً بأمير المؤمنين عليه السلام
إننا حينما ننظر من بعيد إلى الشخصيات بما اجتمع فيها من خصائص إيجابية، فإننا غالباً ما نثني عليها. ولكننا عند التطبيق العملي نقع في المحذور. وهذا واحد من عيوب أبناء البشر، ولو أن أهل الدنيا مالوا إلى مناصرة المظلوم الذي تجسّد في شخص أمير المؤمنين عليه السلام، وهبّوا لمناصرة الحقيقة التي تمثّلت فيه، ونهضوا لمقارعة الظلم كنهضته، واقتربوا عملياً ولو خطوة واحدة نحو تلك الخصائص، على قدر تعاطفهم مع عدل وإنصاف وشجاعة أمير المؤمنين عليه السلام أصبحت الدنيا روضة. لكننا نحن بني الإنسان من أمثالي الذين نثني على أمير المؤمنين إلى هذا الحد، ليس من المؤكد أننا نثني في حياتنا اليومية وفي أحكامنا العادية على أحد الأعمال التي نثني عليها في شخصية أمير المؤمنين. ولهذا فمن المناسب الاطلاع على التفاصيل الجزئية من خصائصه، بقدر الاطلاع على الجوانب المستخلصة من خصاله؛ كأن نطّلع على كيفية عدله، وكيف كانت عدالته التي نالت كل هذا الإطراء والثناء؟ وكيف كانت سيرته في الجانب العملي؟ ثم نحاول كخطوة لاحقة التقرّب منه في مجال الممارسة العملية. وهو أمر صحيح ويفضي إلى التكامل. لا بدّ أنكم سمعتم ما ورد في بعض الروايات من أن أشخاصاً كانوا يأتون إلى الأئمة عليهم السلام ويقولون إننا شيعة لكم كما ورد في رواية أن بعضهم جاءوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام نفسه وقالوا له ذلك إلا أنّ الأئمة عليهم السلام كما تفيد هذه الروايات كانوا يستنكرون ذلك منهم، ويقولون لهم: وأين وجه الشبه بينكم وبين شيعتنا وموالينا؟.
* رواية "الارشاد" في مدح أمير المؤمنين عليه السلام
وقع اختياري اليوم على رواية وردت في كتاب "الارشاد" للشيخ المفيد ، إلاّ أنني نقلت نصّها من كتاب "الأربعون حديثاً" لسماحة الإمام الخميني قدس سره. لقد نظرت في الرواية، فوجدت أن كل فقرة في هذه الرواية تشير إلى بعد من أبعاد شخصية أمير المؤمنين، كزهده، وعبادته، والأبعاد الأخرى. فيمتدح الإمام الصادق عليه السلام طبقاً للرواية أمير المؤمنين هكذا: "والله ما أكل علي بن أبي طالب عليه السلام من الدنيا حراماً قط حتى مضى إلى سبيله" أي إنه كان يتجنّب أكل الحرام، ويتجنب المال الحرام، ويتجنّب المنال الحرام. والمراد طبعاً هو الحرام الحقيقي وليس الحرام المنجز حكمه بالنسبة له؛ أي أنه كان يبتعد حتى عما كان فيه شبهة. وقد وضعوا أمامنا هذه الأمور كتعاليم ومثال عملي، والأهم من ذلك كمثال فكري. وأقرّ الإمام الصادق والإمام الباقر والإمام السجّاد عليهم السلام بأنهم لا يستطيعون العيش بالشكل الذي عاشه الإمام علي، فما بالك إذا وصل الدور لأناس من أمثالي؟ فتلك الحياة هي قمة الحياة والإمام يشير إلى تلك القمة، وهذا يعني أن الجميع يجب أن يسيروا في هذا الاتجاه. "وما عرض له أمران كلاهما لله رضاً إلاّ أخذ بأشدّهما عليه في بدنه". فإذا عرض له نوعان من الطعام كان يختار أدناهما، وإذا عرض له نوعان من الثياب كان يختار أردأهما، وإذا عرض له عملان كلاهما حلال كان يختار أصعبهما عليه. وهذا الكلام غير صادر من متحدث عادي، وإنما المتحدث هنا كما تشير الرواية هو الإمام الصادق، أي إن كلامه في غاية الدقّة. إذاً من المهم جداً التشدد على الذات في الحياة الدنيا ومتاعها ونعيمها. وما نزلت برسول الله صلى الله عليه وآله نازلة قط إلاّ دعاه فقدّمه ثقة به". أي إن الرسول متى ما ألمّت به ملمة إلا وكان يستدعيه وينتدبه لها ويقدمه فيها.
وذلك أولاً: لعلمه بأنه قادر على أدائها على أحسن وجه.
وثانياً: إنه لم يكن يتمرّد على الأعمال العسيرة والمهام الشاقة.
وثالثاً: كان على استعداد للجهاد والبذل في سبيل الله. ففي "ليلة المبيت" مثلاً حين هاجر رسول الله سراً من مكة إلى المدينة، كان يجب أن يبيت أحد في سريره. وهناك قدّم الرسول علياً. وفي الحروب كان الرسول يقدّمه أيضاً. وفي جميع القضايا الأساسية والمهمّة التي كانت تعرض للرسول صلى الله عليه وآله كان يقدّم لها علياً ثقة منه به. والإنسان المسلم السائر على نهج علي، يجب أن يسير على هذا الخط، وأن يتقدّم إلى الأمام بأسرع ما يمكن.
ثم قال "وما أطاق أحد عمل رسول الله صلى الله عليه وآله من هذه الأمّة غيره، وإن كان لا يعمل عمل إلا وكان وجهه بين الجنّة والنار". أي على الرغم من كل هذه الأعمال الإيمانية الكبرى كان سلوكه سلوك إنسان يعيش بين الخوف والرجاء؛ فهو كان يخشى الله وكأنه متأرجح بين الجنّة والنار "يرجو ثواب هذه ويخاف عقاب هذه". وخلاصة هذا الكلام هي أنه على الرغم من كثرة جهاده وبذله وعبادته، إلاّ أنه لم يغتر بشيء من ذلك. في حين إذا صلّى أحدنا ركعتي نافلة وقرأ بضعة جمل من الأدعية، وأراق دمعتين، يغتر بعمله الضئيل هذا ويتفاخر ويتصور نفسه وكأنه أصبح (طاووس العلّيين). أما أمير المؤمنين فلم يغتر بكثرة عمله الصالح. "ولقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه الله والنجاة من النار مما كدّ بيديه ورشح منه جبينه" أي إن الأموال التي أنفقها على عتق أولئك المماليك لم يحصل عليها بالمجّان، وإنما حصل عليها بتعب يديه وعرق جبينه وبالعمل الشاق؛ سواء في عهد الرسول أم في فترة الخمسة والعشرين سنة، أم في عهد خلافته، إذ يستدل من بعض الآثار والدلائل أنه كان يعمل أيضاً في زمن خلافته؛ فكان يحفر القنوات ويحيي الأراضي ويزرعها ويحصل على المال من هذا الطريق ثم ينفقه في سبيل الله، فكان يشتري العبيد ويعتقهم، وأعتق على هذا المنوال ألف عبد. "وأنه كان ليقوت أهله بالزيت والخل والعجوة". أي أن طعامه العادي الذي كان في داره هو الزيت والخل والتمر من الدرجة المتوسطة أو الرديئة، وكان طعامه يشبه الخبز واللبن أو الخبز والجبن في عرف مجتمعنا في الوقت الحاضر. "وما كان لباسه إلاّ كرابيس، إذا فَضُل شيء عن يده دعا بالجلم فقصَّه". أي أنه لم يكن يرتضي لنفسه حتى الزيادة في الأكمام، وإذا زاد القماش عن ذلك دعا بمقصٍّ فقصه لكي يستخدم ذلك القماش في خياطة شيء آخر؛ لأن القماش كان قليلاً في ذلك العصر وكان الناس يواجهون مشكلة في الحصول عليه. ثم تحدث بعد ذلك عن عبادته. فقد كان عليه السلام قمة الإسلام وأسوة للمسلمين. البشرية بحاجة إلى خصال أمير المؤمنين عليه السلام علي الذي نعشقه أنا وأنت، وتعشقه الدنيا، ويكتب المسيحي كتاباً عنه انطلاقاً من عشقه له، ويثني عليه حتى من لا يلتزم عملياً بأحكام الدين، لماذا تنظر له عن بعد؟ اقترب منه وانظر إليه عن كثب..
البشرية اليوم بحاجة إلى الخصال التي كان أمير المؤمنين رافع لواءها؛ لإنّها خصال لا تبلى بتقدّم العلم والتكنولوجيا، ولا تندثر بظهور أنماط جديدة من الحياة. فالعدالة لا تبلى، والإنصاف لا يبلى، والدعوة إلى الحق لا تبلى، ومقارعة الغطرسة والتجبّر لا تبلى، وارتباط القلب بالله لا يبلى، لأن هذه الخصال ثابتة في فطرة الإنسان على امتداد التاريخ. وقد كان أمير المؤمنين رافعاً لواء هذه الخصال.