نسرين إدريس
بطاقة الهوية
اسم الأم: آمنة دلّه
محل وتاريخ الولادة: البزالية 21- 12- 1971م
الوضع العائلي: متأهل وله ثلاثة أولاد
رقم السجل: 13
محل وتاريخ الاستشهاد: كفرشوبا 8 - 8 - 2006م
وجلست عند عتبات الدار تنتظره. تقلّب الأيام بين كفي انتظار مرير، وقلبها يحدّثها أن الطريق التي حملته إلى الجنوب، لن تعود به. وهي تدري أن قلب الأم لا يكذب، ولكنها ظلّت هناك تنتظره وتقطفُ بتلات الورود لتنثرها في طريق عودته.. ولَكَم غاب عن تلك الطريق أحبّة، خرجوا من البيوت إلى سوح الجهاد، يحملون قلوبهم بين الأكف، ليقدموا أرواحهم عند مذبح الشهادة فداءً للوطن وللأمة..
في البزالية، الرحم الذي أنجب العديد من المجاهدين والشهداء، ولد علي في بيتٍ متواضعٍ تملأه الطيبة والتواضع. تشرّب من والديه معنى الإيمان العميق، ودرج على محبة أهل البيت عليهم السلام، فعرف منذ نعومة أظافره الطريق القصيرة التي توصل إلى مرضاة اللَّه، بدأها من قُبلة الرضى التي يطبعها في كل يومٍ على يدي والديه، وارتسمت في تصرفاته المكللة بالاحترام والتقدير لكل من حوله.. كان علي فتىً هادئاً ومطيعاً. وقبل أن يخطو في سنّ التكليف الشرعي، وقفَ على سجادة الصلاة، وصام لله تقرباً، فتجلّى نور إيمان قلبه على وجهه، فترى ملامحه وكأنها خُطّت بريشة من الضياء.. وكما تربى في منزل ذويه على الدين المحمدي الأصيل، تعلّم في كشافة الإمام المهدي عجل الله فرجه كيف تُصقل الشخصية، وكيف تُترجَم العقيدة إلى العمل الذي أرادنا الله تعالى أن نقوم به.. في العاشرة من عمره، اجتاح العدو الإسرائيلي لبنان في العام 1982.
وكما رأى الهمجية الصهيونية تحاول أن تكتب تاريخاً جديداً بدماء العرب، شاهد بأم العين البواسل الذين رفضوا إلا أن يكونوا هم تاريخ الوطن والأمة.. وفي المسجد، المتراس الحقيقي للمجاهدين، قضى سنوات مراهقته يتتلمذ على الحرس الثوري والمؤسسين لنواة العمل المقاوم، فتعلّم مع الصلاة والدعاء رفض الظلم، ونبتت بداخله روح الثورة، التي جعلته ينضوي تحت لواء المقاومة الإسلامية باكراً، وقد شجعته أمّه على ذلك، لأنها عرفتْ أن الأمة لا يمكن أن تكون حرّة من دون سواعد المجاهدين.. ومنذ العام 1988، تنقل من دورة عسكرية إلى مهمة جهادية، من البقاع إلى الجنوب، تراهُ والبأسُ يعصف في عينيه، لم تهدأ روحه التواقة للعطاء، ولم يبعده عن عمله الذي أحاطه بسرية تامة أي شيء، وقد رفد عمله العسكري بثقافة أنارت عقله وروحه. ها هو يعود من عمله، يقبّل كفّ جدته العجوز، ويخدمها ويؤمّن طلباتها، ثم يأخذها في سيارته في جولةٍ صغيرة. وإذا ما دخل إلى منزل والديه، سارع إلى مساعدة والدته في أعمال المنزل، وجلس وإخوته وأخواته ليشكّلوا مشهداً جميلاً للأسرة المتماسكة والمُحبّة.. لقد عوّد علي نفسه على الالتزام الدقيق بالوقت، فهو لا يتأخر عن موعدٍ أبداً، خصوصاً إذا كان موعد عمل. وإذا ما اضطر إلى انتظار أحد، يقرأ القرآن والدعاء. وقد استغل أوقات فراغه القليلة في القيام بالمستحبات التي واظب على الكثير منها..
قدمت المسيرة الجهادية الكثير من الشهداء الأبرار، وعلي قابضٌ على الحياة كالقابض على الجمر، تراه يحملُ البندقية دون تعبٍ أو كلل، ويسأل الله أن يرزقه الشهادة التي يتمناها قلبه، ويرفع يديه نحو السماء ليطلب أن يموت بالسلاح ألف مرة، ولا تكون خاتمته على الفراش. وكلما تلفّتَ، طلب إلى أهله أن يدعوا له لينال ما يصبو إليه. لقد ذاب علي في عمله، واختزل حياته الشخصية لتكون المحاور كل دنياه، حتى بعدما تزوج وأنجب ثلاثة أولاد، لم يؤثر ذلك قيد أنملة على عمله، بل تفانى فيه حتى آخر قطرة من دماه.. تعلّق قلبُ علي كثيراً بطفلته (آسيا)، فكان يجلبُ لها ما تريد، ولم يستطع أن يقول لها "لا" ولو مرّة واحدة. وكان كلما عاد من عمله، وجد أولاده ينتظرونه ليركضوا إليه مشتاقين، ويتسابقون ليتعلقوا برقبته وساعديه.
وقبل أن يذهب إلى عمله، يتحلّقون حوله، فيحادثهم ويخبرهم الحكايا، ويوصيهم دوماً بأن يحافظوا على أخلاقهم الإسلامية، وقراءة القرآن الكريم والتدبّر بمعانيه.. لقد حرص علي على تربية أولاده تربية جهادية، وسعى إلى زرع الصبر في قلوب كل من حوله، وهو يعيد على مسامعهم الأمثلة التي حفظها من حياة الأنبياء العظام عليهم السلام والأئمة الميامين عليهم السلام، ليهوّن عليهم مصائب الدنيا أمام عظيم مصابهم عليهم السلام.. تتحركُ الحياة عندما يعود علي من الجبهة، فيحدّث هذا، ويمازح ذاك، أو يجمع أولاد العائلة ليحلق لهم شعورهم وهو يخبرهم أنه أفضل حلاق هاوٍ في المنطقة، وتارةً يتفقد الأرض والشجر، وأخرى يساعد بعض الجيران في حرث الأرض وجمع المحصول. قبل أن ينطلق إلى عمله في الجنوب في المرة الأخيرة، شعرت والدته بأنها مشتاقة إليه كثيراً وهو يجلس بالقرب منها. وحينما تلفّتَ ناحيتها، طلب إليها أن يتربى أولاده على خط ونهج المقاومة الإسلامية، فدمعت عيناها وسألته عن سبب ما يقوله، فابتسم قائلاً لها: "أنتِ تعرفين نهاية طريقي".. وذهب الحاج علي إلى الجنوب قبل عشرة أيام من تنفيذ عملية "الوعد الصادق"، تاركاً للجيران والأصدقاء الكثير من الذكريات الجميلة، والأمثلة الفريدة لإنسان مقاوم نموذجي، تجلت فيه خصائلُ الذين اختارهم الله تعالى إلى جواره، فافتقدوه قدوةً وأخاً ورفيقاً..
شارك علي في الحرب المصيرية، وفي قرية كفر شوبا، صمد وثلّة من المجاهدين مدافعين عن تراب الوطن. وإلى جانب جهاده، كان يقوم بتهيئة الطعام للمجاهدين في ليالي رجب المباركة، التي عبقت بوحي غريب، حيث أمضى أغلب المجاهدين أيامهم صائمين في خطوط النار. كانت الليلة الأخيرة هي ليلة الثالث عشر من شهر رجب، ذكرى ولادة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، عاش علي لحظات تلك المناسبة السعيدة، وقلبه يقطرُ حزناً على الشيبة التي لونت الفجر بالدماء.. ولم تغيّب أيام الحرب القاسية ابتسامة علي، فبقي محافظاً على روح النكتة في أحلك الأوقات. ولا ريب في أنه شعر بسعادةٍ عارمة وهو يلتحم مع الجنود الصهاينة، فهو ومنذ تحرير أيار العام 2000 واندحار العدو، أحسّ أن فرصة نيل الشهادة صارت نادرة، ولكن في هذه الحرب، قد فتحت الجنة ذراعيها لمن أخلص لله عمله، وباع له جمجمته. وفي الثامن من آب، استشهد الحاج علي أحمد البزال في قرية كفرشوبا أثناء تأديته لواجبه الجهادي. وبعد وقف إطلاق النار، استمر البحث عن جثمانه الشريف أربعة أيام، قبل أن يُعثر عليه ويوارى في الثرى، لينضم إلى قافلة الأوفياء من أبناء البقاع، الذين قدموا أرواحهم على تراب الجنوب..