نسرين إدريس
بطاقة الهوية
الاسم: سامر عقيل زغيب
اسم الأم: مزنة يعقوب
محل وتاريخ الولادة: يونين 1969 9 8
الوضع العائلي: عازب
رقم السجل: 16
لا إقليم التفاح 27-7-1990
لم يكن الموقف الذي اختاره سامر أمام رجال العائلة طريقاً للتملص من واجبات أو تقاليد، بل كان درساً على كل فردٍ منا أن يضعه دوماً نصب عينيه، ليتذكر من هو وإلى أين مصيره...
ذاك النهار، حين طلب والده منه أن يترك الجهاد مع المقاومة مرغّباً إياه ببيتٍ وزوجة ومال، وقف أمامه كالمهند الذي يأبى الرجوع إلى الغمد إلا وقد اجتث بحدّه الظلم والحقد والكراهية، وتلا بعض آيات القرآن وانسحب، وبقيت نظرات والده الذي أدرك في تلك اللحظة بالذات أن ولده مشى في طريق رحيل لا رجوع بعده... فبكى، بكى فخراً لأنه رأى ولده رجلاً لا يهاب أحداً سوى اللَّه، وحزناً لأنه أدرك أن حبيب قلبه لن يعود... في زمن الموقف والكلمة، زمن الدمّ النفيس، إختار سامر كلمة الحقيقة وشرّع صدره لحراب النكران والتضييق والرصاص، وانتصر انتصار أصحاب الحسين عليه السلام في كربلاء... بين يونين وضاحية بيروت الجنوبية، تربّى سامر في عائلة مستضعفة على أسس عزة النفس والصبر والإيمان، وامتلك في صدره قلباً يزخرُ بالعواطف الجياشة التي تنشر الحبّ والحنو أينما كان، فهو لأمه الولد البار الذي تعتمد عليه في حمل المسؤوليات ومساعدتها، ولأبيه السند والدفاع، ولإخوته المدرسة التي علّمت بصمت واحتضنت بصدق...
الصمت رفيقه الدائم، ونظراته الدالة على دراية عميقة بالهدف المنشود تثير في النفوس أسئلة لا أجوبة لها، وتراه يسابق الزمن كي يكبر، ويتحدى الوقت لكي يصل إلى المكان الذي يريد، لم يكن يهمه كيف، بل كان الوصول هو المهم... ترك المدرسة باكراً على الرغم من ذكائه الظاهر في بريق عينيه، ليعمل ويساعد والده، خصوصاً وأن الحالة المادية لأغلب اللبنانيين في زمن الحرب كانت سيئة، ولكن بمجرد أن نزل إلى ميدان العمل ليؤمن لقمة عيش كريمة، سارع للالتحاق بالمقاومة ليوازي في داخله نقاط الهدف، ولتكون أيام الدنيا إشارات صادقة للآخرة...
في بعلبك، عمل ووقف إلى جانب والده، وفي بعلبك أيضاً تعلّم حمل السلاح لمقارعة العدو الإسرائيلي، كان يعمل بسرية تامة ويُعين نفسه للارتقاء بها إلى مصاف المخلصين الذين يوفقهم اللَّه لحمل بندقية الجهاد، وليس حمل السلاح في زمنٍ ملونٍ بالوقائع الكاذبة بقرار سهل، فالحقيقة دوماً صعبة ومُرّة، ومن أرادها فعليه أن يبيع جمجمته للَّه في نفس لحظة الخيار... ولكي يكون المرء أهلاً لحمل اسم المقاومة الإسلامية، لا بد من سلوك طريق جهاد النفس أولاً، وقد عرف سامر منذ البداية أن بوابة المحاور هي محراب المسجد، فعمد إلى بناء علاقة ودية مع المسجد، مداوماً على أداء الصلاة فيه في وقتها...
ومن المسجد انطلق لحمل السلاح، كان عمره أربعة عشر عاماً، فتىً في أول الطريق، تكاد البندقية أن تكون أطول منه، ولكن في داخله كبر مارد القوة واقتات من العزيمة التي زُرعت في نفسه العُلوية، فاختار الجنوب مكانه الآخر، المكان الذي تعلّم حبه من قريته في يونين... وككل المجاهدين الذين يأنسون بالسكن في المحاور، كان سامر يقضي معظم أوقاته بين رفاقه المجاهدين، يخدمهم بروحية عالية، ويتعلم منهم ما فاته من الشؤون الروحية والجهادية، وعند عودته إلى المنزل يتابع الدروس الدينية عند كبار العلماء المجاهدين...
شارك الشهيد سامر زغيب في العديد من العمليات العسكرية، أهمها كانت تصديه للجحافل الصهيونية في ملحمة ميدون العام 1988 حيث قدّمت المقاومة الإسلامية ثمانية عشر شهيداً وأسيراً لا يزال إلى الآن خلف قضبان السجون الإسرائيلية، وقد قاتل ببسالة، قبل أن تناله إصابة أفقدته الوعي حوالي 4 ساعات، وغطّى التراب جسده، وعندما استيقظ بين أيدي المجاهدين فتح مقلتيه على نصرٍ غالٍ وحسرة لبقائه على قيد الحياة... كانت مقولة "انظروا دماءنا وتابعوا الطريق" التي كتبها أحد شهداء ملحمة ميدون على صخرة شهدت بطولة لا يمحوها الزمان، عهد قطعه سامر على نفسه بالسير على ذات الطريق للوصول إلى الهدف الأسمى "الشهادة في سبيل اللَّه"... السير صوب إحدى الحُسنيين حثيث، والعائلة التي كانت تنتظر الأيام القليلة التي يقضيها سامر بينهم صارت تشعر في أعماقها أن السنوات التي طواها بعمره ليصبح شاباً عشرينياً مزجها في خابية الدّم والتعب ولا سبيل للعيش بدون ذاك الأكسير الأخروي الذي لا يقوى على شربه أحد، إلا الراسخون في العلم والعاشقون...
بقي سامر يحيط أخوته ووالدته بحب وحنان، وبقي قلبه يسمع شكواهم، وكان يقضي وقتاً طويلاً يلاعب أخته الصغيرة "رباب"، وأيضاً بقي ذلك النسر المجاهد العاشق الذي فرد جناحيه في بلدة يونين ليحلق فوق قمم جبل عامل حيث تمنى أن يكون جسده ينبوعاً من نجيع يروي روابي النصر الأكيد...
مع رفيق دربه الذي لم يفترق عنه أبداً الشهيد عباس صولي، سار سامر صوب الجنوب، بعد أن وقف أمام والده في ذلك النهار ليؤكد خيار الجهاد والمقاومة، غاب 27 يوماً، ولكن الانتظار لا يزال مستمراً... كانوا أربعة مجاهدين يعبرون خراج بلدة كفر ملكي حيث وقعوا في كمين لعدد كبير من المقاتلين، بقي القتال 9 ساعات، استشهد خلاله شهيدان، وبقي سامر يقاتل حتى الرمق الأخير، وقد بدا واضحاً أنه قاتلهم وجهاً لوجه بشجاعة قل نظيرها، وبقي يقاتل حتى آخر طلقة لم يتراجع ولم يتعب، لكن نفاذ ذخيرته جعلهم يتمكنون من قتله...
بقي جسده في أرض المعركة ثمانية أيام، وقد ارتوت أرض الجنوب من دمه بعد عطش طويل، وإن كانت شمس تموز اللاهبة قد أحرقت جسده المرمي في العراء، فإن حزناً عميقاً تلوّن به إقليم التفاح الذي جمع في قراه مشاهد لبطولات لا تزال حكاياها توقظ في ضمير الأمة عِبرة تشير إلى الطريق الصحيح، وعبرة تسقي في نفوسنا جديب البقاء، لنتذكر دوماً أننا بقينا في وطن حر عزيز مُصان، لأن ترابه أنجب رجالاً كسامر عقيل زغيب... بعد استشهاده بقيت رباب أخته الصغيرة تجلس في المكان ذاته أمام المنزل في يونين تلعب مع سامر، وكلما سألها أحد مع من كنتِ؟ تجيبه مع "سامر"، ولم تعرف أن سامر استشهد إلا بعد حوالي سنتين...
وبعد حوالي ثماني سنوات رأته والدته في حلمها أنه جاء وأخذها لتنتقي له عروساً من الجنة، وقد توفيت والدته بعد حوالي أسبوع من هذه الرؤيا... إنهم الشهداء الذين يجعلون أرواحنا كشجرٍ في مهب الرياح تعصفُ بنا الحقيقة بكلها الجميل والمرير...