مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

تسابيح شهادة: ولمن خاف مقام ربه جنتان

حيدر الديراني

الشهيد الشيخ عباس اللحام(*)

توارت الشمس كئيبةً وراء الشفق وكأنها ملَّت حقد البشر وكرهت ظلمهم. غابت كالمرأة التي أنحلها الضعف والمرض من كَثرة إجرامهم. غابت ليتّشحَ الليل الأسود بنقابه في سماء الشام الحزينة؛ فالقمرُ أظلم بالخسوف، وعيناه سال دمعهما فعيون الأطفال مؤرقة لا تستطيع أن تغفو من صوت إرهابهم.

*أيامٌ عصيبة

حاكت هذه الليلة خيوطها السوداء، ومآذنُ مقام السيدة رقيّة ترفع أذان العشاء، وتتموّجُ في مقاطع ألحانه غصّاتٌ غريبةٌ وكأنَّها تودّع حبيبها، فطيورُ المقام عَصَت أجفانُها النوم قلقةً! وأُذُناها ترهفان السّمع.
الله أكبر، أقمِ الصلاة... لتصطفَّ خلف عباءتهِ الجموعُ، ولكن أيُّ جموعٍ في هذه الأيام السوريّة العصيبة؟ فهي لا تتجاوز العشرات. يدُ الغدر قد حرمت الكثيرين ركوعاً وسجوداً خلف عمامته البيضاء، لكنَّ شيخنا العزيز يواصلُ جهاده إلى المسجد رغم كل الصعوبات.

*السلام عليكِ مولاتي
السلامُ عليك أيها النبيّ... تصافح كفُّه الحنونُ المصلِّينَ وكفُّه الأخرى ترفع الدعاء بالنصرة للمجاهدين وبالرحمة والفرج للشعب الحزين. السلام عليك يا مولاتي... يتَّجه كعادته ليودِّعَ ريحانة الحسين عليه السلام، يزوِّد روحه بعطر الحنان الذي يسقي به براعمه الصغيرة، يستلُّ رحيقاً فضياً من إكليلها يبلسمُ به جراحاته ومعاناته، ولكن في هذه المرة وكأنَّ عطر المقام هو الذي يشتمُّ وردَه وأذكاره التي تعشَّقت بين مسامات عباءته ويودِّع روحه الطاهرة: "أستودعك الله وأسترعيك..."

تقرأ نبضاتُه كلماتِ الوداع بنغمٍ حزين: "ألاَ هل وفيتُ يا ابنة الأطهار، سلامٌ إلى رخام مقامك المسبّح وزخارفه المنشدة، سلامٌ لليالي رمضانَ وأسحاره المباركات، سلامٌ لجموعِ أحبابك تلتفُّ قربك فجراً، سلامٌ إلى أيام عاشوراء والمعزّون يطوفون بباحتك وعيونهم تلطمُ باكيات، سلامٌ لدمعاتكِ الشاكياتِ الحائرات؛ فلقد حان ميعاد الوداع، ضُمّيني إلى عطفكِ قليلاً قبل أن تقطفني أيادي اللّئام، سامحي العبد الفقير فسأترك المسجدَ يتيماً والمنبر قلبه أليم فاستعدي لفجيعتي والبسي ثوب العزاء، فالصبر الصبر الجميل. الوداع.. الوداع رقية، الوداع".

*بين الأزقّة القديمة

يضم راحة كفِّه إلى قلبه وينحني مسلِّماً ويغادر الأعتاب بقلب يتقطّر أسىً على فراق جنَّةِ الشام، ويسير بخطوات ثابتة بين أزقّة دمشق القديمة وحيداً؛ فالقدر أشغل المحبين عن مرافقته، والسُبحة تسبِّح في يده وتؤنس أنفاسه الأخيرة، والآياتُ ترتَّلُ من ثَغره مطمئنّةً وتَرتفعُ قرباناً إلى الله، أمّا حمامُ المقامِ المضطربِ فيرافق إمامه جَزِعاً خائفاً من يدٍ غادرةٍ تمدُّ أظافرها اللئيمة لتقطفَ زهرته. لكنَّ قدر الله لا غالب له. فها هي رصاصاتُ الغدرِ المسمومةُ حقداً تحلّقُ مسرعةً نحوه وتكشِّرُ عن أنيابها لتغرز أسنانها في صفحة جبينه الترِبة...

*في أمان الله شيخ عبّاس
هوى جسده الطاهرُ إلى الأرض كالطائرِ الجريحِ المنكسرِ الجناحين الذي أنهكه شقاءُ السفر وقسوته، لتضمَّهُ الأرض بين ذراعيها كالأمِّ الحنون جسداً متعباً متهشماً من هذه الدنيا المظلمة، ويستريح خدُّهُ المضمَّخُ الذي ارتسمت عليه عروقٌ من دمه القاني لتهاجر منها روحُه العطوفةُ شهيداً إلى العلياء، وتتحرّر من بين أصابعهِ المرتعشةِ كتبُ علومه وأوراقه لتتساقط الحروفُ شهيدةً معه تحكي للعالم بلغةِ الصمتِ قصَّةَ عشقه وجهاده.


(*) إمام مسجد السيدة رقية عليها السلام في الشام، استشهد في 22 جمادى الآخرى 1433هـ، الموافق 12 أيار سنة 2012.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع