طوافٌ في محراب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

فاطمة برّي بدير

لم ينتظر الشاعر العاملي إبراهيم برّي (مواليد بلدة تبنين 1917 والمتوفى عام 1997) أن يأتي زمن يتجرّأ فيه شاعر غربي على التطاول على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن تصل إلى أسماعِه حكايةُ كاتب أو روائي شتّام يهجو آل البيت المحمدي، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً كما قال في محكم كتابه.. لم ينتظر مناسبة تأتي من هنا وهناك، كسلمان رشدي الهندي البريطاني، أو رسام الكاريكاتير الدانماركي، أو كالمخرج العابث الذي سخر من رسول البشرية.. لم ينتظر كل هؤلاء ليمتشق قلمه وقصائده، سلاحاً ورايةَ فخرٍ وانتماء، في تلك السنوات.. لم تلهه معارك الحداثة وقضاياها، وإنما غلبته مشاعره الفيّاضة تجاه النبي وآله عليهم السلام فأصدر في العام 1970 ديوانه الشعري الذي بدا فريداً في ذلك الوقت: "للنبيّ وآله".

في إهداء الديوان كتب الشاعر إبراهيم برّي يقول شارحاً:
قدمتُ شعري للنبي وآله فعساي أخطر أو أمرّ بباله
في لمحة تقف الخلائق كلها عطشى لكأس عطائه ونواله
إن أنا فخرت بأحمد فلأنني أُنمى له وأعدّ من أجياله

هي كتابة راجية تطمع في كسب ود الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ونيل شفاعته يوم يعطش الخلق لكأس نواله. ومن الإهداء إلى القصيدة الأولى، أبيات عن الله جلَّ وعلا، بدأ بها الشاعر ليبدو وكأنه يتّبع ترتيباً معيّناً في مخاطبته النبي وآله. فهو بدأ بالله تعالى أولاً، في قصيدة صغيرة، عاد وأتبعها بقصيدة "محمد صلى الله عليه وآله وسلم" التي أرّخ فيها حياة النبي من فترة ما قبل ولادته إلى ما بعد وفاته.. قصيدة سكب فيها الشاعر اثنين وثمانين بيتاً من الولاء لخاتم النبيين والإعجاب بشخصه، ليعود ويستأنف مع بقية العترة من آل بيت النبوة عليهم الصلاة والسلام.

وعلى غلاف الديوان القديم، كتب الشاعر أيضاً معرّفاً عمله الأدبي بالقول:
"قصائد تتكلم عن آل بيت النبوة الذين عمّدوا الإسلام بدمائهم وتعهّدوا غرس الشريعة السمحاء حتّى نَمَت وأزهرت وأعطت الثّمر اليانع.. نفحات من يثرب تغازل أنساماً من مكّة والنّجف فيفوح عبيرها من مهج القصائد والكلمات... باقات من حدائق الشّرق نضّدتها أنامل الوحي، لتقدّمها للنبي وآله الذين ركزوا الدين على صخرة العقيدة وكتبوا تاريخ النضال العربي بمداد من الدماء... ملاحم وبطولات، تفوق الأساطير أتى بها الأئمة الأوصياء لمستها ريشة الشعر المخلص فتجسدت حقائق تتكلم عن روعة الجهاد الخالد في ميادين التّضحية والاستشهاد".

* قصيدة محمد صلى الله عليه وآله وسلم
في قصيدة محمد، تأريخ لسيرة النّبي بدءاً من المرحلة التي سبقت مولده مروراً بكلّ مراحل حياته، حيث صاغ الشاعر في 82 بيتاً، معظم مراحل حياة الرسول، من ترقّب الراهب بحيرا لمقدمه، إلى ولادته، وهو وصف ولادة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:
وأطلّ الصبيّ دفقَ ضياءٍ فانجلى الليل والظلام تبدّد
وتعالت على الحمى زغردات أعلنت للأنام ميلاد أحمد
فإذا الكون بسملات صلاة وإذا الأرض كوكب يتوقّد
وإذا كل ربوةٍ تتمنى أنها ملعب اليتيم المشرّد

* نزول الوحي
إن نزول الوحي، هو المحطة التي شكّلت المنعطف الرئيس والأساس في شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تغيّبها هذه القصيدة، وإنما رصدت أيام اعتكافه وقيامه وتعبده في غار حراء بالقول:
ما له يسهر الليالي وحيداً وسط كهفٍ معتّم الغور أسود
وبذاك الخشوع والطرف ساجٍ نزل الوحي هاتفاً يا محمد
قم فذكّر وثوبك الجفّ طهّر واعبد الله والداً ليس يولد
عتق الدهر يا محمد فابعث فيه روح الكمال كي يتجدّد

* الأصنام
توقف الشاعر أيضاً عند تعامل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع النهج الدّعوي الذي سار عليه بعد بعثه بالنبوّة، مع ما لاقاه من مواجهة قريش وتحديها له وحربها معه، هذه الدعوة التي قامت على استبعاد الصنم وتحطيمه في حياة الجاهلي كي يكون الله تعالى هو البديل الأرحب.
سفّه اللات واستخفّ بعزّى وبدين الأوثان لم يتقيّد
ونراه على التراب يصلّي وبآلاء ربّه يتهجّد
والفتى العامري عمرو بن ود يتحدى الصفوف مثنى ومفرد
أين يا مسلمون أين علي أين فاروق أين فتية أحمد؟
وعيون النبيّ للغيب زاغت وبأجفانه الرجاء تهدهد

* في الحرب
لم تمنع الأجواء الشعرية الشاعر، من الحديث عن الاستراتيجيّة الحربيّة والعسكريّة التي سار عليها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حياته واتّبعها مع أعدائه. فكما هو رجل العبادة والصّلاح والإصلاح، فهو أيضاً القائد العسكري الذي يتّخذ القرار ويشنّ الحروب، وإنما ليس إبتداءً. يقول الشاعر في قصيدته:
أحمد لم يجرّد السيف إلا عندما السيف فوقه قد تجرّد
وأمام الإله قال مجيباً: قد وفيت للعهود ربّي ألا اشهد

* وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
تنتهي قصيدة "محمد" بوصف حال الأمة الإسلامية بعد غياب ورحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فيأتي الشاعر على ذكر الفتن والصراعات وما يحيق بهذا "الشرق" كما يسمّيه، ليخلص الى مناجاة شعرية يقول في بعض أبياتها:
أحمد مات فادفقي يا ليالي وليلفّ الدنى ضباب ملبّد
فرّقتنا يد العداوة فانظر وبآلاء ربّه يتهجّد
لفتة منك يا رسول البرايا علّنا في سماء وجهك نسعد
لو حفظنا تراثك السمح كنا أمة ترتجى وشعباً موحّد

* ليلة الإسراء
ولأنّ الإسراء كان محطّة مفصليّة في حياة الرّسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد خصّص الشاعر واحدة من قصائد ديوانه لتكون عن ليلة الإسراء، هذه الليلة التي أُسري فيها بالرسول من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عُرج به إلى السّموات السّبع. قصيدة بدأها الشاعر بالحديث عن البلاد التي حضنت الإسلام وكانت مهد المعراج، ليعود للحديث عن رحلة الإسراء والمعراج، فيقول:
هنا أسرى الرسول على براق لجانحها انطوى الأفق البعيد
علت فوق السحاب فكل نجم تمنّى أن يكون له الصّعود
هنا طه النّبي تلا كتاباً هو الاسلام والنّهج الجديد
نظام عدالة فيها تساوت على الأرض الجبابر والعبيد
دنا ودنا من الرحمن حتى تهاوى الستر وانضوت البرود
وكان الوحي بينهما بريداً فغاب الوحي وانقطع البريد

يختم الشاعر قصيدة ليلة الإسراء بالعودة للحديث عن البلاد المشرقية وتاريخها وحروبها، فيقول:
بلاد قادها للفتح طه سيخفق فوقها النصر الأكيد

* أمام قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
في القصيدة المعنونة بهذا العنوان، لا بد وأن تنتاب أيّ زائر لأعتاب مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المشاعر الجيّاشة والفيّاضة نفسها، التي غمرت الشاعر حين وقف بكل رهبة وجلال أمام قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فزادته ولاء على ولاء، وحباً على حب.. فلم يملك إلا أن راكَمَ مشاعره وأحاسيس اللقاء في أبيات كثيرة بدأها بالقول:
وقف المجد خاضعاً عند بابك وجثا الخلد في رحاب رحابك
والسلاطين أقبلوا فتمنوا أن يكونوا الصغار في حُجّابك
والذي كان ذا جناب رفيع طأطأ الرأس واحتمى بجنابك

في مكان آخر من القصيدة تفيض المشاعر الروحية أكثر. ينساب وجدان الشاعر حتى ليكاد القارئ أن يشعر برهبة ما يعتمل في داخله حين يقول:
عندما زرتك التقيت بروحي إن روحي تطوف في محرابك!


* حكومة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
رغم أن الشاعر محكوم بالنظرة الأدبية والروحية لما يتعلّق بمضمون أبياته إلاّ أنّ هذا لم يمنعه أبداً من تخصيص قصيدة مستقلة بعنوان "حكومة النبيّ". ومعلوم أن كلمة "حكومة" هي مصطلح ذو دلالة عصرية وسياسية وإدارية، وما كان ذلك إلا اختياراً متعمّداً من قبل الشاعر، ليُطلع الآخرين على قيم الرسول ومكانته وعظيم شأنه وكيفية تعاطيه الحكيم في مختلف الشؤون. وهو الأمر نفسه الذي يسعى الكثيرون لتطبيقه في هذه الأيام بالتحديد، حيث يعتقدون أن أفضل وسيلة للدفاع عن الرسول الكريم إظهار مآثره ومحاسنه ومكارم أخلاقه ومسلكياته الخاصة والعامة.
في قصيدة حكومة النبي كتب الشاعر شارحاً سياسة الرسول السياسية والديبلوماسية والداخلية والإدارية بقوله:
لم يقرّب بني العمومة منهم لا ولا اهتم في بني أخواله
فالمساواة في حكومة طه هي من بعض غرسه وغلاله
إنما الناس للإله عيال فبني الأرض كلهم من عياله

* ولاء المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم
تحت هذا العنوان عبّر الشاعر عن الأسباب التي تجعله يسكب شعره ويكتبه مدحاً لآل البيت عليهم السلام. وهو صاغ ذلك بشكل حكائي طريف. نقتبس من القصيدة بعض الأبيات التي قد تعطي القارئ مدلولاً عن أجوائها:
سألتني فتاة غنجٍ وتيه فتبسّمت للسؤال البديه:
لِمَ دوماً نراك تنظم شعراً عاطفياً يسيل عمرك فيه؟
هل أنت شاعر لأميرٍ تستحثّ الحروف كي ترضيه
قلت حاشا أسلسل الشعر مدحاً بعدُ إلاّ لأحمد وذويه
إن تغزلت في مكارم طه لست أعطيه حقّه أو أفيه
هو مني كمهجتي..كعيوني وأنا منه واحد من بنيه
لا تلومي امرءاً لأحمد يهوى لا يلام الفتى بحب أبيه

إذاً، هو حب ممزوج بالشعور بالانتماء، وهو نوع نادر من الحب، هو حب الجزء للكل.. كانتماء التراب للأرض، أو انتماء البذرة للثمرة، إنه حب الولد لأبيه.. حبُ لا يلام المرء فيه كما قال الشاعر...
وختاماً، فإن هذه المقتطفات من قصائد الديوان المذكور ليست إلا القصائد المحمدية فقط، التي تناولت شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما يتعلق بمسيرة حياته وجهاده، إذ كانت جزءاً من باقة وارفة، شملت النبي والولي الوصي... بالإضافة الى قصائد أخرى تناولت أحداثاً من التاريخ الإسلامي المحمدي.

^{(*) كاتبة وإعلامية لبنانية.
1.للنبي وآله: ديوان شعري للشعر اللبناني إبراهيم بري صدر في بيروت عن دار الرائد العربي عام}