بقلم: سماحة السيد حسن نصرالله
"خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملؤون مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين. لن تشذّ عن رسول الله لحمته وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده، من كان باذلاً فينا مهجته وموطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنّني راحل مصبحاً إن شاء الله".
بهذه الكلمات أعلن الإمام الحسين عليه السلام شعار كربلاء وأهداف كربلاء، ومما لا شكّ فيه أنّ من الميزات الخاصّة التي تفردت بها كربلاء عن سائر الوقائع التاريخية أنّها تخاطب الإنسان بكلّ أبعاد وجوده. إنّها تخاطب في الفرد من الناس عقله فحديثها حديث العقل، وتناشد قلبه وعواطفه فحديثها حديث القلب والعواطف. وفي المجتمع تخاطب كربلاء الطفل الرضيع والفتى اليافع والشاب في مقتبل عمره والرجل المقتدر والكهل والشيخ الكبير، كما الأبيض والأسود والغني والفقير وسائر الأفراد من الطبقات كافة. ولذلك كانت كربلاء مليئة بالدروس والعبر، بل هي مدرسة صناعة الإنسان والمجتمع على منهج الإسلام والقرآن.
لقد كانت كربلاء قدراً حتمياً في تاريخ المسلمين ومشيئة إلهية حتمية لأنّها حاجة إنسانية ملحة وحاجة إسلامية ملحة وضرورة اجتماعية لا غنى للمسلمين عنها. وقد عبّر الإمام الحسين عليه السلام عن حتمية كربلاء وعن تعلق المشيئة الإلهية بمقتله فيها، وأن تكون زينب عليه السلام ثنائيةُ في صنع كربلاء في أكثر من مورد. فعندما حاولت أم المؤمنين أم سلمة ثنيه عن الخروج إلى كربلاء قال لها: يا أماه قد شاء الله عزّ وجلّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشردين وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيدين وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً.
بهذا المستوى من الوضوح كانت رؤية الإمام عليه السلام إلى كربلاء وإلى ضرورة كربلاء اجتماعياً وإسلامياً ورسالياً وإنسانياً على كلّ الصعد، ولكن أين تكمن هذه الحاجة وهذه الضرورة؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من العودة إلى حقيقة الصراع الذي حصل في كربلاء، هل هو صراع على الزعامة، أو النفوذ، أو المصالح، أو العشيرة؟ على أيّ شيء كان القتال في كربلاء؟ إن معرفة العلة الغائية الحقيقية لما حصل في كربلاء أولى من أيّ شيء آخر، وبها نستطيع أن نحدّد مسؤوليتنا الشرعية ونعرف أين نضع أقدامنا في الحاضر والمستقبل.
قبل الإسلام لم يكن العرب القاطنون في شبه الجزيرة العربية أصحاب حضارة، بل لم يكن لديهم شيء مما يمتّ إلى الحضارة بصلة.
كانت شبه الجزيرة العربية غارقة في الجهل والظلام، فلا علم ولا تمدن ولا قانون ولا اقتدار ولا تاريخ ولا حتى مشاركة في صنع التاريخ السياسي للعالم. وكان العرب قبل الإسلام مجموعة من القبائل والعشائر المنتشرة هنا وهناك تتقاتل من أجل فتاة خطفت أو غنمة سرقت، أو حول جدول ماء وجد في واحة خضراء، أو بسبب هجاء قبيلة بأبيات من الشعر، فتلك الأمجاد الجاهلية التي كان يتغنّى بها العرب ثمّ ماذا كانوا يعبدون؟ كانوا يعبدون أوثاناً يصنعونها من حجر أو خشب أو تمر فإذا جاء زمن المجاعة أكلوا آلهتهم التي كانوا يصنعونها من التمر. كان يسود بينهم أبشع أنواع التخلّف والانحطاط الإنساني حيث يدفن الأب ابنته طفلة يانعة، ولذلك لا يوجد في كتب التاريخ شيء يذكر عنها وحتّى أصحاب الإمبراطوريات العظيمة في ذلك الزمن لم تكن تعني لهم هذه المنطقة شيئاً وزهدوا في أن تطأها أقدامهم.
وولد النور الإلهي، وبُعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام وبدأ بنشر الرسالة الإلهية في شبه الجزيرة العربية.
منذ اللحظة التي بدأ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنشر دعوته المحمدية بدأ الصراع مع عتاة قريش وخاصة أبي سفيان الذي كان أشدّهم حرباً وأطولهم نَفَساً، إذ لم يدع مؤامرة ولا وسيلة ولا طريقة إلاّ واتبعها في حربه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ورغم ذلك كان النصر حليف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ راح ينتقل من نصر إلى نصر ينشر بذلك الإسلام ويقاوم ويهزم الجاهلية البغضاء، يقاوم الجهل بالوعي ويقاوم الشرك بالتوحيد، وكان من الطبيعي جداً بعد أن تسقط الجاهلية مع شعاراتها أن تسقط رموزها أيضاً وتعلو كلمة الحق ويعلو شأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزلت السورة المباركة (بسم الله الرحمن الرحيم، إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبّح بحمد ربك واستغفره إنّه كان توابا) ولكن هل انتهى المشروع الجاهلي؟ وهل انكفأ أصحابه كلياً؟
أبداً فإن مشروع الجاهلية الذي كان يسوّق له أبو سفيان وأعوانه من مشركي العرب وإن خبا مع ظهور النور المحمدي، إلاّ أنّهم كانوا يتحينون الفرص للانقضاض من جديد والقضاء على الإسلام والانتقام من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وبدأت معالمه تعود شيئاً فشيئاً حتّى ظهر من جديد، وإذا بصبية من بني أمية يصبحون الأمراء في ولايات المسلمين وإذا بالخليفة يصبح أموياً ومن ثمّ ينتهي زمن الخلافة ويبدأ زمن الملك وبعد علي لم يبقَ هناك خلافة ولا حتّى نسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. بل أصبح الأمر مُلْكاً بيد معاوية يتسلّط من خلاله على المسلمين ولم يكن الهدف الإمرة والملك وحسب، بل القضاء على الإسلام، والحرب الدائمة على الإسلام.
جاء "المغيرة بن شعبة" أحد وزراء معاوية وأعوانه بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام وقال له معاوية خفّف عن شيعة علي لا تقتلهم لا تطاردهم فإنّ هدفك الملك وقد حصلت عليه وعليّ ضمه التراب. فماذا كان جواب معاوية؟ لا. كيف أهدأ، كيف أسكت كيف أنام وأخو بين هاشم (أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ينادي به على المنابر في كلّ يوم خمس مرات، ألا سحقاً سحقاً!!
ولذلك جهد معاوية وسخّر قدراته كافة لتصفية الرسالة الإسلامية، تصفيتها جسدياً من خلال قتل الأتقياء والفقهاء والعلماء وأصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتصفيتها معنوياً من خلال تحريف العقيدة والأحكام والمفاهيم ووضع الأحاديث الكاذبة. وبعد معاوية جاء يزيد الوريث لأبيه ليكمل الطريق وما بدأه أبوه من قبل فالمرحلة مرحلة القضاء على الإسلام ولذا كانت كربلاء. كربلاء إذاً كانت المشيئة الإلهية، من أجل حماية شوكة الإسلام والحفاظ على روح الإسلام وثقافته ومفاهيمه وعقيدته وحضارته ولم تكن القصة قصة صراع سياسي محدود أو نزاع على سلطة أو قتال مع ظالم معين.
وبالفعل كربلاء التي حصلت لم تحفظ الإسلام فقط في سنة ستين للهجرة إنّما حفظة الإسلام حتّى هذا الزمن، فكربلاء تمثل الضمانة الإلهية للمسلمين سابقاً وحاضراً ومستقبلاً. أيّ ظالم إذا كنت تريد أن تسقطه فعليك بشعارات الحسين عليه السلام. وأيّ أمة تريد أن تبعث في روحها الحماس فعليك بالحسين عليه السلام، وإذا كنت تريد أن تعلّم الأمة الفداء والتضحية فهوذا الحسين عليه السلام، وإذا كنت تريد أن تعلمها الصبر والصفح فهذا هو الحسين عليه السلام. كربلاء هي الضمانة الحقيقية الكاملة لمستقبل المسلمين وذلك نجد بأن للحسين عليه السلام أثراً خاصاً في حياة المسلمين، لاسم الحسين سحر خاص ونغم خاص في قلوب المسلمين كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبداً. وعندما نتطلع إلى كربلاء يمكننا أن نستلهم منها كلّ أدوات المعركة للوقوف في وجه المستكبرين والظالمين والجاهلين، يمكننا أن نستلهم حبّ الله والعشق، الصبر والأخلاق، الإيثار والتضحية، وهكذا ينتصر الإسلام ويُحفظ الدين وتستمر الرسالة. ولذلك كانت كربلاء ضمانة لمستقبل الإسلام.
فلولا كربلاء هل كنا ندرك ماهية الإسلام؟ هل كنا سنصلي ونصوم؟
هل كان هناك مساجد ومآذين وتكبير وتهليل؟ هل كان هناك حج وكعبة؟
لو لم يكن هناك كربلاء هل كان سقط الشاه؟ هل خرجت "إسرائيل" من جبل عامل والبقاع الغربي؟ وهل كنا نأمل بإزالتها من الوجود؟
لو لم يكن في تاريخنا كربلاء أين كنا نحن الآن؟ نعبد من؟ أي صنم؟ أي ملك أو أي رئيس أو زعيم؟ بأيّ ذلٍ وهوان نعيش؟ كلّها أسئلة نطرحها لو لم يكن هناك كربلاء. لكن لأنّ كربلاء وجدت في التاريخ بقي نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبقيت رسالته وبقي اسمه يرفع على المآذن كلّ يوم خمس مرات، رغم أنف معاوية ويزيد وكلّ بني أمية. ولأنّه كانت كربلاء بقي للإسلام اسمه وذكره وقوته وبناؤه وبقي كلام زينب عليه السلام شاهداً على ذلك عندما قالت: "يا يزيد فكد كيدك وناصب جهدك واسعَ سعيك فوالله لا تميت وجينا ولا تمحو ذكرنا فما سعيك إلاّ بدد وما أيامك إلاّ عدد".
لقد صنعت كربلاء الثورة الإسلامية في إيران وصنعت المقاومة الإسلامية في لبنان وهي التي تصنع في تاريخ المسلمين كلّ مظاهر الثورة والقيام والفداء.
نعم، لم يكن الحسين عليه السلام وحده في كربلاء، ولم تكن المشيئة الإلهية أن يقتل الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه وينتهي الأمر، بل كانت المشيئة أن تكون زينب عليه السلام حاضرة أيضاً، وأن تحضر بناس النبي والنساء لأنّ الله شاء أن يراهن سبايا على أقتاد المطايا من بلدٍ إلى بلد. لماذا؟ لكي لا يحاصر الدم في كربلاء. ولكي لا يصبح الحسين عليه السلام وأصحابه خوارج خرجوا على "طاعة أمير المؤمنين يزيد بن معاوية". لقد أراد يزيد أن يحاصر الدم في كربلاء من خلال هجومه الإعلامي المضلل، ولكن.. وكما يقول الإمام الخميني قدس سره: الحمد لله الذي جعل أعداء هذا الدين من الحمقى.
لقد كانت رسالة زينب عليها السلام إيصال صوت الإمام الحسين عليه السلام إلى جميع المسلمين، مسؤولية حفظ العيال والأطفال كانت سهلة أمام هذه المسؤولية الرسالية، أن يصبح لسانها سيف الحسين وأن يصبح خطابها دم الحسين ينتشر في قلوب المسلمين، ولو أرادت أن تنتقل في بلاد المسلمين لما تمكنت كما تمكنت من خلال مسيرة السبي من كربلاء إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى الشام، ومن الشام إلى المدينة المنورة وما بينها من محطات وقفت زينب لتكون الصوت الأمين على دماء أبي عبد الله عليه السلام.
هذه هي رسالة كربلاء، إنّها مدرسة الإسلام لصناعة الإنسان، لتصنع من الإنسان رائداً للعلم والنور والفضيلة والعدل والتوحيد ومقاوماً لكلّ أشكال الجهل والظلام والرذيلة والظلم والشرك. فالسلام على الحسين عليه السلام وعلى كلّ الأصحاب الذين شاركوا في كربلاء، والسلام على زينب وعلى كلّ النساء اللواتي كنّ الصوت الإعلامي الصارخ لنشر رسالة كربلاء.