الشيخ عباس رشيد
قال الله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا
ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ
حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ
الْحُسْنَى وَال لّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا
لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ
فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ﴾
(التوبة: 107-108). اتَّفق أهل النقل على أنَّ جماعة من بني عمرو بن عوف بنوا مسجد
(قبا) وسألوا النبيِّ أن يصلي فيه فصلَّى فيه، فحسدهم جماعة من بني غنم بن عوف وهم
منافقون، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد (قبا) ليضرّوا به ويفرِّقوا المؤمنين عنه،
منتظرين أبا عامر الراهب الذي وعدهم أن يأتيهم بجيش من الروم؛ ليُخرجوا النبي صلى
الله عليه وآله من المدينة، وأمرهم أن يستعدّوا للقتال معهم؛ فلمّا بنوا المسجد،
أتوا النبي صلى الله عليه وآله وهو يتجهّز إلى تبوك وسألوه أن يأتيه ويصلِّي فيه
ويدعو لهم بالبركة فوعدهم إلى الفراغ من أمر تبوك والرجوع إلى المدينة فنزلت
الآيتان. عندها وجّه رسول الله صلى الله عليه وآله شخصين من المسلمين فقال لهما: "انطلقا
إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرِّقاه"(1).
أهمية المسجد
إننا من خلال قصة نزول هاتين الآيتين نستفيد ملاحظات عديدة:
1- أهميّة المسجد وخطره في الإسلام ودوره في تربية المؤمنين إذا كان بناؤه على
التقوى. أمّا إذا كان بناؤه على النفاق فإنّ له دوراً هدّاماً وهو الفتنة وبثّ
الفرقة بين المسلمين.
2- نستفيد أيضاً أنّه ينبغي أن لا يكون المسلمون سطحيين في نظرتهم إلى الأمور.
فالمنافقون يخادعون المؤمنين عبر ظواهر الأمور، فيوحون إلى البسطاء والسذّج من
الناس أنّهم على خير.
3- إنّا إذا نهينا الناس عن الذهاب إلى مراكز الفساد، علينا أن نُعطي بديلاً لهم؛
بأن نبني ونوفِّر في المقابل المراكز الصالحة للمجتمع.
دور المسجد في الإسلام
كان للمسجد أهميّة كبرى في حياة المسلمين الأوائل، فلم يكن محلاً للعبادة المعهودة
فحسب بل كان له أدوار عديدة غير ذلك. فمنذ أن حلّ رسول الله في المدينة مهاجراً من
مكّة، أمر المسلمين ببناء المسجد، ولمّا اكتمل بناؤه اتَّخذه الرسول مكاناً للعبادة
وتجمُّع المسلمين ومقرّاً لإدارة شؤونهم، وإصدار الأوامر وانطلاق الجيوش والسرايا.
فضلاً عن ذلك كان مدرسةً للعلم والفقه والثقافة الإسلامية. وإذا راجعنا حياة علماء
المسلمين الذين برزوا في كافة شؤون العلم، من طبّ وفلك وكيمياء وفقه وتفسير وغير
ذلك، لرأينا أنّهم قد تعلّموا في المسجد. ولئن قلّت وظائف المسجد اليوم عن السابق،
حيث ظهرت المدارس والجامعات والحوزات، والمنابر الإعلامية كالصحافة والتلفزيون،
وتكنولوجيا الاتصالات كالانترنت والكومبيوتر، إلا أن المسجد يبقى له الدور الكبير،
بل في هذا العصر -عصر المادّة وفقدان الروح-ترتفع الحاجة وتشتد إليه؛ لأنّ أسباب
الفساد زادت عن السابق. لذلك نحن في هذا الزمن أحوج إلى ارتياد المساجد لإزالة آثار
الفساد من عقولنا ونفوسنا وسلوكنا، فإنّ كثيراً من بيوتنا وشوارعنا وجامعاتنا
ومدارسنا وإعلامنا يمارس الآن ما يُمارسه مسجد ضرار أيّام رسول الله صلى الله عليه
وآله.
الدور الاجتماعي للمسجد
إن الداخل إلى مساجد المسلمين يلمس ظاهرة مهمّة وهي ظاهرة الاتحاد وعدم التفرقة
الطبقيّة، فالمجتمع الإسلامي في المسجد يجسِّد قول الله تعالى:
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ﴾(الحجرات:13)
وقول رسول الله صلى الله عليه وآله "ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي،
ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، إنّ أكرمكم عن الله أتقاكم"(2).
المسجد يعني الوحدة والوئام والانسجام والمحبّة واضمحلال الفرد أمام الجماعة،
وذوبان الفوارق الاجتماعية. فليس للغني مركز في المسجد أفضل من الفقير، وقد يكون
صاحب الجاه في آخر الصّف، والخامل الذي لا يعرفه أحد -سوى خالقه- وراء الإمام
مباشرة.
المؤامرة على المساجد
ولأجل خطورة وأهميَّة المسجد في حياة الأمّة الإسلامية، سعى أعداء الأمّة من داخلها
وخارجها إلى التقليل من اهتمام المسلمين بالمسجد بجعل بديل له أو مسخ دوره. يقول
أحد علماء الاجتماع: "... غير أن المسجد ظل يتمتّع بمكانته ولم يتمكّن الطواغيت من
مسخ هويته، ما جعل بعضهم يعمدون إلى استحداث شيء جديد بنوه إلى جوار المسجد وأطلقوا
عليه اسم (الخانقاه) وذلك لصرف الأنظار ما أمكن عن مركز الإشعاع الحقيقي في
المجتمعات الإسلامية. وقد بلغ الحرص على تشييد الخانقاهات درجة أن العصر السلجوقي
أطلق البعض عليه تاريخيّاً مصطلح (عصر الخانقاه)..."(3). أما من ناحية مسخ دور
المسجد، فإنّ أعداء الأمّة من داخلها أو خارجها سلخوا المسجد عن مهمّاته الخطيرة
التي تضر بهم وبكراسيهم، فجعلوا المسجد مركزاً للعبادة الجامدة وشلُّوا دوره الفردي
والاجتماعي والسياسي والجهادي، وقالوا: إنّ لا دخل للدين بالسياسة، اعبد الله ما
شئت، ولا تتدخّل في شؤون الدنيا، اترك الدنيا لأهلها، وعش أنت آخرتك!! يقول الإمام
الخميني: "المسجد هو خندق إسلامي، والمحراب هو محل الحرب، إنهم يريدون أن يأخذوا
ذلك منكم، وليس المعيار أن يأخذوا هذا منكم، بل إنّ ذلك مقدّمة، وإلا فاذهبوا
وصلّوا ما شئتم. إنّهم تضرّروا من المسجد... إذ أصبح المسجد مكاناً لتجمّع الناس،
وتنوير الجماهير للانتفاضة ضد الظلم، إنّهم يريدون أخذ هذا الخندق منكم"(4).
بناء وعمارة المساجد
وإذا كان للمساجد هذه الأهميّة، أليس جديراً بالمسلمين أن يهتموا بعمارتها وبنائها؟
أليس جديراً بهم أن يمنعوا خطط الأعداء الذين قال الله تعالى فيهم:
﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن
يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ
اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ
الْمُهْتَدِينَ﴾(التوبة:
17-18)،
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ
مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾(البقرة:
114) ومن الضروري التأكيد على أنّ منع الذكر في مساجد الله والسعي في خرابها،
لا يقتصر على هدم بنائها، بل إن كلّ عمل يؤدي إلى القضاء على دور المسجد في المجتمع
مشمول بهذه الآيات. فالمقصود من العمران -استناداً إلى الأحاديث الصريحة- ليس هو
تشييد البناء فحسب، بل الحضور فيها وإحياؤها بالذكر، فهو نوع من العمران. وعن
الإمام الصادق عليه السلام: "ثلاثة يشكون إلى الله عزّ وجلّ: مسجد خراب لا يصلي فيه
أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلّق قد وقع عليه غبار لا يُقرأ فيه"(5).
وهذه وصيّة
الإمام الخميني قدس سره إليكم: "لا تهجروا المساجد فإنّ ذلك هو تكليفكم"(6). وأوّلاً
وآخراً هذا نداء الله تعالى إليكم:
﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا
تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾(الجن:18).
(1) انظر: مجمع
البيان، وتفسير الميزان، وتفسير نور الثقلين، في تفسير الآيتين.
(2) ميزان الحكمة، محمدي الري شهري، ج11، ص288.
(3) علي شريعتي، التشيع العلوي والتشيع الصفوي، ص213.
(4) المسجد في فكر الإمام الخميني، مركز الإمام الخميني، ط1، 2002م – 1423هـ، ص36.
(5) الخصال، ح163، ص142. بحار الأنوار، ج2، ص41.
(6) المسجد في فكر الإمام الخميني، مركز الإمام الخميني، ص22.