نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

رسالةالقرآن في المعرفة

آية الله جوادي الآملي


إن القرآن الذي هو علم ممثّل يدعو المجتمعات الإنسانية قبل أي شيء إلى العلم والمعرفة، لأن مشعل الهداية يضيء أكثر من خلال ذخيرة العلم.

وصحيح أن هداية القرآن في تبشير: ﴿ليكون للعالمين نذيراً لكن المستفيدين منه هم الذين يخافون النار: ﴿إنما أنت منذر من يخشاها، والخائفون من جهنم ليسوا كثر، والأهم منهم هم العارفون بالله والعالمون بأحكامه: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء وفي ظل الإيمان بالله والرجوع إليه يصبحون مصاحبين للملائكة، وفي ساحة أعظم المعارف الإلهية وهو التوحيد يجلسون في محضر الشهادة، ويسمع شهادتهم أولي الألباب، ويجمعون مع ختم التأييد والإمضاء لله الواحد: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم. (آل عمران/18)

إن رسالة القرآن في الدعوة إلى المعرفة تشمل جميع أركانها. فهي تعنون المبدىء الذي هو الله سبحانه وأسماؤه الحسنى ومظاهرها المختلفة تحت عنوان معرفة المبدأ، وتبين المعاد الذي هو المبدأ بالأسماء الحسنى الأخرى، وتهدي إلى الرابط بين المبدأ والمنتهى الذي هو مظاهر الأسماء الحسنى لله سبحانه. وتعلّم في الضمن الرؤية الكونية والمعرفة بالإنسان وكلاهما أحد مظاهر الأسماء الإلهية المباركة. وتبين كيفية نشوء ونمو الكثير من الموجودات ذوات الأرواح أو غيرها تحت عنوان شرح الآيات الآفاقية والأنفسية.

في تحليل مسائل علم المعرفة، وبمعزل عن طرح الأبحاث بصورة الإشكال المنطقي الدقيق ومراعاة شروط المنطق الصوري، فإن هذه الدعوة تعتني عناية كاملة بالقسم المهم للمنطق الذي يعتبره أصحاب النظر من علماء المناهج جزءً واجباً من أبحاث المنطق والأقسام الأخرى التي هي نوافل مسائل المنطق. ومن هنا فإنها لا تعتبر أن الحسبان والزعم غير كافيين فحسب، بل أن الظن الذي يبتلى به الكثير من العلماء هو أيضاً ناقص. وإن الظن ليس مفيداً في التحقيق في مسائل الرؤية الكونية. وقد نزلت الآيات الكثيرة في هذا المجال وهي تبين أن الظن كالتخمين والخرص وأن أتباعه ليس إلا ضلالة وأنه يساوي أتباع الهوى. والآيات التالية نموذج لذم الظن وسلب حجيته في المسائل العقائدية ونفي الاعتماد عليه في أبحاث الرؤية الكونية: ﴿إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون. (الأنعام(116) ﴿وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً. (يونس/36) ﴿إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس. (النجم/23)

ففي الصور الفاقدة لشروط الإنتاج لا يحصل الجزم أبداً، ومن المواد الظنية لا يظهر التعيين إطلاقاً، ولهذا فإن هداية القرآن الكريم ورسالته في تبيين علم المعرفة هي جعل الأساس على الصور الواجدة لشروط الإنتاج الجزمي والمواد الصالحة لجهة إفادة اليقين، وهي تعتبر أن المستفيدين منها هم المتقون الذين لا يقفون عند حدود الحس ولم يحبسوا أنفسهم ضمن جدران الطبيعة الضيقة وهم يؤمنون بما وراء ذلك من الغيب والعقل: ﴿يؤمنون بالغيب، ولم يكتفوا بالظن بالقيامة بل وصلوا إلى حدود اليقين: ﴿وبالآخرة هم يوقنون. وقد فرَّقوا بين الظن المتاخِم الذي يُستبعد فيه نفوذ الشبهة دون استحالته وبين اليقين الذي يستحيل فيه تسرب الترديد لا استبعاده، كل ذلك في ظل علم المعرفة. وإضافة إلى ذلك، فإنهم لا يتصورون الظنون المتراكمة يقيناً، ولا يعدون البعيد ممتنعاً.

والقرآن الكريم كما أنه يعتبر الفكر الأصيل أرضية لحصول اليقين عند أصحاب النظر، فإنه يعد الذكر الخالص والشكر الصافي من الشوائب وسيلة لحصول اليقين عند أولي الأبصار. فبعد حادثة حضرة خليل الله النبي إبراهيم (عليه السلام) (وهي الأنموذج الأكمل لأصحاب البصر) ومشاهدته لملكوت السماوات والأرض، ووصوله إلى مقام اليقين الشهودي والجزم البصري:﴿وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين. (الأنعام/75) يدعو جميع أصحاب النظر للنظر في ملكوت السماوات حتى يحصلوا على اليقين المفهومي والجزم النظري، وإن كان نيل مقام الجزم البصري ممكناً بدوره. ﴿أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض. (الأعراف/185) ويدعو جميع سالكي طريق الحق إلى الذكر والعبادة الخالصة حتى يصلوا إلى مقام اليقين الشامخ: ﴿واعبد ربك حتى يأتيك اليقين. (الحجر/99) ويعلم أصحاب علم اليقين الذين وصلوا عن طريق الفكر والشعور أو قيام الأسحار والذكر والشكر أنهم ما زالوا في الطريق، وإن هناك مقاصد رفيعة بانتظارهم حتى ينتقلوا من علم اليقين إلى عين اليقين. ﴿كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين. (التكاثر/5)

إن اليقين عامل مؤثر يمكّن العبد الصالح السالك من عبور مقام المحب إلى درجة محبوبية الحق حيث لا يذوق لذة المحبة فحسب، بل يفتخر من ناحية المحبوبية ويحلق وإذا كان حتى وقته هذا يتمتع بلذة مناجاة الحق فإنه الآن سيغرق في شوق مناجاة الحق له: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله. (آل عمران/31) "ما برح لله عزت آلاؤه في البرهة بعد البرهة وفي أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم وكلّمهم في ذات عقولهم"... (نهج البلاغة). فهم في كل لحظة عبادة يحصلون على فائدة جديدة من اليقين، ومع كل يقين ينجزون عبادة أفضل، كما أن أصحاب النظر يحصلون بالفكر على فائدة جديدة من اليقين النظري، ومنه يحصلون على مفتاح حل المعضلات النظرية.

ولأن نظام الخلقة قائم على أساس العلة والمعلول، ولأن سائر العلل تدار من قبل الله تعالى الذي هو علة العلل والأسباب التي هي ليست إلا مجاري الفيض الإلهي، فإن طلب أي فيض ينبغي أن يكون بحفظ مبادئه ومجاريه، ولا يوجد أية وسيلة مخالفة لحكمة الحق أو مغيرة لها، بل تسير معها بانسجام. ومن حيث أن العلم يحصل أحياناً من خلال الفكر والتعلم، وأحياناً من خلال الذكر والعبادة، فإن طلب المزيد منه يكون بطلب توفيق الفكر والحدس وسعادة العبادة والشكر. لهذا فإن معنى ﴿رب زدني علماً يكون ملازماً لطلب توفيق السعي والتفكر العقلي أو الانجذاب والتهجد القلبي حيث إن جمع الأمرين ليس ممكناً فحسب بل مطلوب...

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع