نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

عاشوراء في كنف الغيب‏

الشيخ أكرم دياب‏

 



لا شك أن من مقارنات الإيمان بوجود اللَّه الإيمان بالغيب، وهو ما أشارت إليه الآيات القرآنية والروايات في الكثير من الموارد، ولا تخلو مساحة زمانية ما في هذا الوجود المترامي عرضاً وطولاً إلا وللغيب فيها دور في تحديد مسارات واتجاهات إما هي قائمة وفق قوانين وأسباب تنتج مجموعة من النتائج والمسبّبات، وإما هي قائمة وفق تدخل إلهي مباشر يغير الموازين ويقلب المعادلات الطبيعية رأساً على عقب. ونماذج كل واحدة من هذين النوعين متوفر في كتاب اللَّه وعلى ألسنة الروايات وما نُقل في صفحات التاريخ من حوادث متفرقة هنا وهناك.

* عاشوراء مشهد الغيب‏
ومع كل ذلك تبقى حادثة عاشوراء بما فيها من وقائع وأحداث سبقت أو عاصرت أو لحقت تلك الواقعة تجسد أحد أروع صور الإرادة الإلهية وأبرز مشاهد الغيب في غياهب الرحلة الإنسانية عبر مر العصور. لقد أريد لهذه الملحمة أن تحقق أهدافها وأن تُصاغ على إثرها معالم جديدة لأسلوب جديد من العطاء يشكل نوعاً من الدفع الذاتي للأمة في مواجهة أزماتها عند مفترق كل طريق يتحدى فيه المظلومُ الظالمَ. وبذلك تكون عاشوراء قد رسمت سنّة من السنن الإلهية التي أرادها اللَّه لتكون منهاجاً يُتمسك به عند كل لحظة مصيرية.

من هنا نعلم أن يد الغيب امتدت إلى مثل تلك اللحظة المصيرية في حياة الأمة بعد نبيها في أشد الظروف إلحاحاً للإصلاح، لتؤسس بنفس تلك المعرفة الغيبية لأسلوب يتمسك به المؤمن عند الصعاب في كل مراحل ما بعد الثورة الحسينية العظيمة. ولا شك أن من ينظر إلى هذه الحقيقة بعين الإنصاف يعلم علم اليقين أن ثورة كربلاء هي في المشيئة الإلهية حصن الحصون لكل مستقبل قد نشهد فيه الصعاب والآلام. لذا لا يساورنا أي شك، أمام ما نراه من الآثار والبركات العظيمة لهذه الثورة، بأن ما قُدّر لأبي عبد اللَّه الحسين عليه السلام إنما كان تدخلاً غيبياً تمتد آثاره إلى يوم القيامة، وقوله عليه السلام لأم سلمة (رضي اللَّه عنها): "يا أماه، قد شاء اللَّه عزَّ وجلَّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حُرمي ورهطي ونسائي مشردين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً..." ليس سوى تعبير عن هذه المشيئة الغيبية والتدخل الغيبي لصياغة جديدة لعصر جديد يمتاز بفكرة خلاقة تقول إن أحد طرق البقاء هو الشهادة والاستشهاد. وما نشهده اليوم من إحياء لهذه المناسبة العظيمة وبقاء حادثة كربلاء في أذهان وقلوب الأمة دليل على هذا المعنى.

ولا نرى عجباً أمام هذه الآثار أن تمتد يد الغيب إلى كل مفاصل هذه الثورة معلنة عن نحو من أنحاء الرعاية الإلهية لصاحبها الذي هو الإمام الحسين بن علي عليه السلام الشهيد وللحادثة بنفسها من خلال ما جرى عليه وعلى أهل بيته وأصحابه.

* النبي وعاشوراء
كثرت الروايات التي أشارت إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحدث عن هذه الواقعة وأنه بكى لمصاب سبطه الحسين عليه السلام وأخبر بما يجري عليه، فجرت دموعه لمصابه، وقبّل نحره مراراً وتكرارً مشيراً إلى أنه يُذبح من الوريد إلى الوريد. وكان كلما نظر إليه خنقته العبرة. وهو أخبر أهل بيته وأزواجه عن تلك الحادثة، وأشار إلى علامات حصولها، وحدد موضع الاستشهاد... أليس ذلك كله دليلاً على أن هذه الواقعة أريد لها أن تكون في سياق التمهيد الإلهي لحالة جهادية لا نظير لها في ساحات التضحية والفداء؟ إن هذا الاهتمام المباشر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبيان هذه الحادثة وما يجري على سبطه من بعده لدليل على أهمية هذه الحادثة في مجرياتها على الأمة من بعده والذي يأتي في سياق الغيب النافذ الذي لا راد له. ولأجل ذلك قال عليه السلام لأحدهم وهو ينهاه عن المسير: "جئت تنهاني عن المسير، ويأبى اللَّه إلا ذلك". وما أراد الإمام عليه السلام قوله هو أن الأهداف التي رسمت لعاشوراء أبعد من كونها متعلقة بزمن ما أو واقعة محددة. والذهن يقصر عن بلوغ تلك الأهداف المرتبطة بالشأن الغيبي.

ولا شك أن مثل هذه الأهداف الغيبية تستدعي تدخلاً غيبياً عمل الأنبياء (عليهم السلام) والنبي صلى الله عليه وآله وسلم على التهيئة له في كثير من الأحيان حتى تؤتي هذه الثورةُ ثمارها.
عن عبد اللَّه بن يحيى قال: دخلنا مع علي إلى صفين فلما حاذى نينوى نادى: صبراً يا عبد اللَّه فقال: دخلت على رسول اللَّه وعيناه تفيضان فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه ما لعينيك تفيضان؟ أغضبك أحد؟ قال: لا، بل كان عندي جبرائيل فأخبرني أن الحسين يقتل بشاطئ الفرات، وقال: هل لك أن أُشمك من تربته؟ قلت: نعم. فمد يده فأخذ قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا، واسم الأرض كربلا. فلما أتت عليه سنتان خرج النبي إلى سفر فوقف في بعض الطريق واسترجع ودمعت عيناه فسئل عن ذلك فقال: هذا جبرائيل يخبرني عن أرض بشط الفرات يقال لها كربلا يقتل فيها ولدي الحسين وكأني أنظر إليه وإلى مصرعه ومدفنه بها، وكأني أنظر إلى السبايا على أقتاب المطايا... ثم رجع النبي من سفره مغموماً مهموماً كئيباً حزيناً فصعد المنبر وأصعد معه الحسن والحسين وخطب ووعظ الناس فلما فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن ويده اليسرى على رأس الحسين، وقال: اللهم إن محمداً عبدك ورسولك وهذان أطائب عترتي، وخيار أرومتي، وأفضل ذريتي ومن أخلفهما في أمتي وقد أخبرني جبرائيل أن ولدي هذا مقتول بالسم والآخر شهيد مضرج بالدم اللهم فبارك له في قتله، واجعله من سادات الشهداء اللهم ولا تبارك في قاتله وخاذله وأَصْلِهِ حر نارك، واحشره في أسفل درك الجحيم. قال: فضج الناس بالبكاء والعويل...

* عاشوراء: من مصاديق الغيب‏
عند مراجعتنا للنصوص التاريخية التي أشارت إلى معركة كربلاء، يقف المرء خاضعاً أمام التدخل الإلهي الغيبي في كل ما رافق هذه المعركة من حوادث من حين المسير إلى ما بعد الاستشهاد لا بل إلى يومنا هذا، لأن ما رافق هذه الواقعة من مشاهد غيبية قل نظيرها لم يرافق أي حادثة أخرى من الحوادث الأخرى، إن لجهة المكان أو الزمان، أو لجهة ما رافقها من علامات الرضا لأنصار الحسين الشهيد لما نظروا إلى ما يلقونه من النعيم حيث أراهم عليه السلام منازلهم في الجنة أو من علامات الغضب على من حاربه حيث جزاهم في الدنيا شر الجزاء. ومن تابع بعين الإنصاف كل ما ورد في هذا السياق وأضاف عليه ما نقل عصر عاشوراء حيث أمطرت السماء دماً وتبدلت الأرض غير الأرض حزناً على ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن عاشوراء في حركتها ومعركتها وآثارها إلى يومنا هذا هي من مصاديق الحوادث الغيبية التي لم ندرك معانيها الحقيقية وأبعادها المعرفية حتى عصرنا هذا...

ولولا هذه الحقيقة، كيف نفسر معنى أن هذه الثورة لم تخمد جذوتها بعد مئات السنين من شهادة هذا العظيم؟ إن وراء هذا السؤال جواباً قد لا ندركه أنا وأنت، إلا أن أقل ما يقال في مثل هذا المقام أن يد الغيب امتدت لتكون هذه الثورة نبراساً لكل مؤمن عشق الجهاد وأحب لقاء اللَّه فكان الحسين عليه السلام القدوة والنموذج لأروع منابع الغيب الإلهي، وعليه لا عجب أن يكون "الإسلام محمدي الوجود وحسيني البقاء".
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع