صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

نعمةٌ داؤها الفخر - السيد علي عباس الموسوي


خلق الله عزَّ وجلَّ الإنسان وقدّر لحياته أن تمرّ بمراحل مختلفة. وهذه المراحل ترتبط بالنمو الجسماني والنفسي لهذا الإنسان. ولكل مرحلة من هذه المراحل متطلبات ترتبط بكلا البعدين، فكما يختلف نوع الغذاء أو تختلف حاجات الجسد في مختلف مراحل العمر، كذلك تختلف النفس الإنسانية في هذه المراحل لناحية المتطلّبات والاحتياجات. وقد كفل الله عزَّ وجلَّ من خلال الشريعة المنزَّلة على نبيه الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم إرشاد الناس إلى المراحل التي تمر بها النفس الإنسانية والمتطلبات التي تكفل وصول الإنسان إلى الغاية المطلوبة منه؛ فالشريعة الإسلامية تهتم بتربية الإنسان وبنشأته الأنفسية من مراحل سابقة على ولادته وإلى آخر لحظة من لحظات عمره، بل وتتميز هذه الشريعة بالتفاصيل الدقيقة التي تتناول كل صغيرة وكبيرة ترتبط بالحياة الإنسانية.

* مراحل الحياة الإنسانية
نقف في هذه السطور مع آية من كتاب الله عز وجل تكفل تقسيم حياة النوع الإنساني إلى مراحل وتطلق على كل مرحلة تسمية، وخصوصيّة هذه التّسمية أنها تحكي عن السّمة البارزة من الصّفات الأنفسية للإنسان في تلك المرحلة. فالاستخ دام القرآني لمادة لفظيّة محدّدة دون غيرها يهدف إلى بيان حقيقة المرحلة التي تكفل تلك الألفاظ ببيانها، وهذه الآية هي قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور(الحديد: 20).
تبدأ الآية بمفردة الحصر (أنما) وتريد بذلك بيان أن المذكور حقيقة لا تقبل الشك ولا الترديد، ثم تنتقل الآية لبيان هذه المراحل وهي ست مترتبة بحسب سنيّ عمر الإنسان ومراحل حياته.
المرحلة الأولى: (لعب)، فالمولود يتولع أولاً باللعب (من الولادة إلى أن يبلغ سبع سنين)، واللعب هو عمل منظوم لغرض خيالي كلعب الأطفال.
المرحلة الثانية: (لهو) ثم إذا بلغ واشتد عظمه تعلّق باللهو والملاهي (من السابعة إلى أن يبلغ الرابعة عشرة)، واللهو ما يشغل الإنسان عمّا يهمّه.
المرحلة الثالثة: (زينة) وهي (ضم شيء مرغوب فيه إلى شيء آخر ليرغب فيه بما اكتسب به من الجمال)، حيث يكون الاهتمام بالمظهر والمنظر بنحو يلفت أنظار الآخرين إليه، ويبرز من خلال ذلك شخصيّته وكيانه، لأنه في هذه المرحلة يبدأ بالاستقلال عن أهله والاعتماد عليهم، وهي (من الرابعة عشرة إلى أن يبلغ الواحدة والعشرين).
المرحلة الرابعة: (تفاخر بينكم)، حيث إنّ شخصيّة الإنسان لم تبرز بعد بشكل واضح فيستعيض عن ذلك بالتفاخر بالحسب والنسب أي بالأسرة التي ينتمي إليها، وما فيها من آباء وأجداد ذوي مكانة وشأن بين الناس. (وهذه المرحلة تبدأ ما بعد بلوغ سنّ الواحدة والعشرين).
المرحلة الخامسة: (تكاثر في الأموال)، قد يكون الاهتمام بعنصر التملك للأشياء مرافقاً للإنسان من طفولته. ولكن ما تشير إليه هذه الآية في هذه المفردة ومن خلال استخدام كلمة (التكاثر) أن مصبّ هذا الاهتمام ينتقل من التملّك للمال كعامل مساعد على قضاء الحاجات ومتطلّبات الحياة، إلى أن يصبح فعلاً مطلوباً بذاته، فتبدأ عمليّة التكاثر بمعنى التفاضل في الكثرة على الآخرين، وهذا يعني أن الإنسان يبدأ بمقايسة حاله مع سائر الناس.
المرحلة السادسة: (تكاثر في الأولاد)، وهذا ما نطقت به آيات كثيرة حيث بيّنت النظرة الخاطئة لكثير من الناس التي تعتبر مجرّد الكثرة في الأولاد باب للتفاضل على الآخرين، فقد ورد في قصّة الحوار في سورة الكهف بين المؤمن والكافر أنه كان لكل منهما جنة ولكنّ الكافر كان يفتخر بعنصري المال والولد: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (الكهف: 34).

* أطفال في سن الكهولة
وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ المراحل الأولى تشخّص حسب العمر تقريباً، إلا أن المراحل اللاحقة تختلف عند الأشخاص تماماً، وبعض هذه المراحل يستمر مع الإنسان إلى نهاية عمره، كمرحلة جمع المال، بالرغم من أن بعضهم يعتقد أن كل مرحلة من هذه المراحل الخمس تأخذ سنين من عمر الإنسان ليكون مجموع المراحل كلها أربعين سنة، حيث تثبت شخصيّة الإنسان عند وصوله إلى هذا العمر.
كما أنّ بعض الأشخاص يمكن أن تتوقّف شخصيّتهم في المرحلة الأولى والثانية حتى مرحلة الهرم، ولذا فإنّ سمات هذه المرحلة تبقى هي الشّاخصة في سلوكهم وتكوين شخصيّاتهم، حيث اللّعب والشّجار واللهو هو الطابع العام لهم، وتفكيرهم منهمك للغاية في تهيئة البيت الأنيق، والملابس الفاخرة، وغير ذلك من متع الحياة الدنيا حتى الموت.. إنهم أطفال في سن الكهولة، وشيوخ في روحية الأطفال1.

* التقسيم الروائي
إنّ الّذي يشهد على التقسيم الزمني لهذه المراحل إلى سبع سنوات لكلّ مرحلة هو الروايات الورادة في ذلك؛ ففي الرواية عن الإمام الصادق  عليه السلام: "دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدب سبع سنين، وألزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح، وإلا فإنه ممن لا خير فيه"2.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الولد سيد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين، فإن رضيت أخلاقه لإحدى وعشرين سنة، وإلا فاضرب على جنبه، فقد أعذرت إلى الله"3.
ففي الروايتين كان التقسيم سباعياً في السنين، كما بينت الروايتان الأسلوب التربوي الذي ينبغي اتباعه في هذه المراحل. والانسجام واضح بين التقسيم القرآني والتقسيم الروائي، ففي السنوات الأولى وهي سنوات اللعب لا بد وأن يكون التعامل مع الطفل باللعب (دعه، سيد)، وفي الثانية تكون مرحلة الأمر والنهي (يؤدب، عبد)، وفي المرحلة الثالثة تكون مرحلة مخاطبة العقل والوعي والعمل على تنمية روح المسؤولية فيه (ألزمه نفسك، وزير). والمسؤولية تقع على عاتق الأبوين في هذه المراحل الثلاث، ولذا لا يكون لهما العذر في التقصير فيها، وأما ما بعد ذلك فتقع المسؤولية على الإنسان، ولذا كان التعبير في الرواية الثانية: "فإن رضيت أخلاقه... وإلا فقد أعذرت إلى الله".

* التفاخر أخطر الأمراض
إذاً، ما يشغل الشاب في مرحلة ما بعد العشرين عناصر ثلاثة: (التفاخر، التكاثر في الأموال، التكاثر في الأولاد). إنّ ما يجمع هذه العناصر الثلاثة هو عنصر التفاضل والمباهاة عند قيام الإنسان بالمقارنة بين نفسه وبين الآخرين، وهو من أخطر الأمراض الأخلاقية التي قد يصاب بها الإنسان، بل هذا المرض الأخلاقي هو الذي أخرج إبليس من العبودية إلى العصيان حيث قال: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (الأعراف: 12).
ويترتب على هذا المرض الأخلاقي مخاطر تحدق بالمبتلى بهذا الأمر، وتتمثل بالتالي:
1ـ تحقير الآخرين: عندما يقوم الإنسان بعملية مقارنة بينه وبين غيره فيرى لنفسه الفضل دون غيره فإنّه سوف ينظر للآخرين نظرة دونية. وهذا الشعور النفسي بالتفاضل ينشأ من المقايسة التي تعتمد المعايير المادية، وأما المعايير المعنوية والإلهية فهي ليست تحت اطلاع هذا الإنسان حتى يحكم على أساسها.
2ـ التكبّر عليهم: ينعكس الشعور بالتفاضل سلوكاً عملياً لدى الإنسان فيبدأ بالتكبّر على الناس، وذلك من خلال السلوك العملي فيأنف من الجلوس معهم أو التحدث إليهم.
3ـ الاعتداء عليهم: قد يتطور التفاضل لدى بعض الشباب بنحو يعتدي على الآخرين لأن نظرة التكبر هذه تجعله يرى لنفسه حقاً في أن يكون ولياً على الآخرين وقيّماً عليهم له أن يتصرف معهم. وهذا ما تجده لدى الشباب في تصرفهم حتى مع كبار السن، فينظرون إليهم على أنهم دونهم في إدراك الأمور وفهمها فينعكس ذلك استهزاء بهم والذي يتجلى بأشكال متعددة كجعل كبار السن مادة للضحك والتندر والفكاهة.

* الشباب جنون وسكر
لقد وصفت الروايات عمر الشباب بأنه جنون أو سكر. ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الشباب شعبة من الجنون"4، وفي رواية أخرى عن الإمام علي  عليه السلام: "ينبغي للعاقل أن يحترس من سكر المال، وسكر القدرة، وسكر العلم، وسكر المدح، وسكر الشباب، فإن لكل ذلك رياحاً خبيثة تسلب العقل وتستخفّ الوقار"5.
والتعبير في الروايتين بصفتي (الجنون والسكر) لأن ما يجمعهما ذهاب العقل الذي يضبط حركة الإنسان ضمن معايير وحدود معينة فلا يسمح لها بأن تتجاوز ذلك، ومتى أصيب الإنسان بالسكر أو الجنون لم يعد يعي ما يصدر عنه، فكذلك حال الشاب يغرق في بعض الصفات ويتهور بالنحو الذي يمنعه من أن يحدد تصرفاته بقيود وحدود.

* أحبُّ الشباب إلى الله
كلما كانت دوافع الشهوة وبواعثها والانجراف مع الدنيا أشدّ كلما كانت مقاومة الإنسان لها تتطلب اعتقاداً وعزيمةً راسخين. ولما كانت سن الشباب هي السن التي تشتد فيها بواعث التعلق بالدنيا وبالشهوات، كان لا بد للشاب من عزيمة ثابتة ومستحكمة. وهذا هو سرّ ما ورد في الرواية من أنّ الشاب المطيع لله هو أحبّ الخلائق إلى الله؛ فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ أحب الخلائق إلى الله عز وجل شاب حدث السن في صورة حسنة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرّحمن ملائكته، يقول: هذا عبدي حقاً"6.


1.الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، ج 18، ص 56.
2.من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج 3، ص 492.
3.وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج 21، ص 476.
4.من لا يحضره الفقيه، م.س، ج 4، ص 377.
5.مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطبرسي، ج 11، ص 372.
6.ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1401.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع