* سعة ثقافته الإسلامية:
لا شكّ في أنّ من السمات البارزة في شخص الشهيد الأستاذ مرتضى مطهري هي السعة والإحاطة بمختلف العلوم الإسلامية، فلم تكن معرفته محصورة في علم من العلوم بل تعدت ذلك لتشمل فروع العلوم الإسلامية كافة كالفقه والأدب والأصول والتفسير والفلسفة والعقيدة والأخلاق والعرفان والسير والسلوك وكان من سعة اطلاعه قدس سره أن تعرف إلى خلفية كلّ علم من هذه العلوم وإلى المسير التاريخي الذي قطعه منذ نشأته إلى آخر مراحل نموه وتطوره ما أكسب نظرته الدقة والعمق والسعة والقدرة على التمييز بين الغث والسمين في مسائل هذا العلم أو ذاك.
وقد أولى الشهيد قدس سره القرآن الكريم والسنّة الشريفة ونهج البلاغة اهتماماً خاصاً حيث تبحّر في مختلف جوانبها وسبر أغوارها وغاص في أعماقها مستخرجاً لآلئ المعرفة وجواهر العلم ليستفيد منها العام والخاص من خلال قوة بيانه وسحره الجذاب. من هنا نستطيع التعرف إلى سر هذه السعة والشمولية في معارف الشهيد، فالتبحر في القرآن الكريم الذي احتوى مختلف أنواع العلوم والمعارف الإنسانية وعالج جميع نواحي حياة الإنسان بصورة إعجازية رائعة جعل من الشهيد مطهري مرآة صافية تعكس هذه المعارف القرآنية بكامل الدقة والوضوح بحقيقة ارتباطها مع بعضها البعض إن لم نقل بوحدتها. وفي الواقع فإنّه لا غنى للمفكر الإسلامي عن التبحر في القرآن الكريم إن رام الدقّة والأصالة والإحاطة الكلية بالمعارف الإلهية وإلاّ فسوف تكون أنواع العلوم التي يتلقاها مجزأة ومتباعدة ولا ترابط حقيقياً بينها.
إنّ هذه المعرفة الأصيلة والشاملة للقرآن والإسلام تبرز معالم جماله وجاذبيته بالصورة الفضلى وتملأ قلب طالب المعرفة – معرفة الإسلام والقرآن- بالإيمان والإخلاص والعشق، وتشدّ على جناحيه ليحلق عالياً في أجواء المعارف الإلهية.
وكل هذه السمات من سعة الإحاطة والشمول، الأصالة والعمق، الوحدة والترابط، الجاذبية والإخلاص تجدها جلية في آثار الشهيد مطهري كافة ومن الطبيعي أن لا يكون هناك محل للتعصب والهوى فيها بأيّ شكل من الأشكال، ومع الاعتراف بوجود أفكار دخيلة خاطئة في الثقافة الإسلامية كان الشهيد لا يرى سبيلاً لمواجهة هذه الأفكار المنحرفة إلاّ من خلال الجهاد الفكري وتبليغ الثقافة الأصيلة باللغة التي يفهمها هذا الجيل المعاصر. وهنا سوف نوجز بعضاً من محطات قصيرة تتخلّل ألوان العلوم والمعارف التي جازها ودرسها الشهيد مطهري مخلفاً في نواحيها آثاراً عظيمة وخالدة.
أ-الأدب وعلوم اللغة:
كان الأستاذ مطهري عارفاً بالأدبيات العربية بفروعها المختلفة، من نحوٍ وصرفٍ وبيانٍ وبديع، إذ أنّ اللغة العربية تعد الأرضية التمهيدية لدراسة سائر العلوم الإسلامية. ولقد درّس بدوره فروع اللغة العربية في حوزة قم خلال إقامته فيها ومن جملة ما درّس كتاب "المطوّل".
وبالإضافة لاهتمامه باللغة العربية كان اهتمامه باللغة الفارسية وآدابها، وظهر ذلك جلياً من خلال استشهاده بأشعار جلال الدين الرومي وحافظ وسعدي الشيرازيين وغيرهم وتمتاز شروحه للأشعار العرفانية والفلسفية خاصة "ثنائيات الرومي" وديوان حافظ.
ب- الفقه والأصول:
كان للشهيد مطهري تبحر كامل بالفقة الإسلامي حتّى أنّ الإمام الخميني قدس سره وصفه بـــ"الفقيه ذي الرتبة السامية" وقد انتفع الأستاذ من دروس اساتذة كبار كآية الله البروجردي وآية الله العظمى محمد المحقّق "الداماد"، وقام هو بدوره بتدريس الفقه سنين طويلة في مدرسة "مروي" بطهران. ولقد استطاع الشهيد بفضل إحاطته بالفقه الإسلامي حل الكثير من المعضلات المعاصرة كمسألة الحجاب وحقوق المرأة وكان شديد الاهتمام بالأحكام الإسلامية التي تعرضت للهجمات المضادة فكان بحثه حول قضية "الرق" في الاتحاد الإسلامي للأطباء وكذلك مباحثه "الإسلام ومقتضيات العصر".
ج- الفلسفة وعلم الكلام:
واهتمّ الأستاذ مطهري اهتماماً خاصاً بعلم الكلام وبرز هذا الاهتمام بالفلسفة الإسلامية منذ دراسته الأولى في حوزة مشهد، وكان عمره آنذاك ثلاثة عشر عاماً، وإنّ الاندفاع والعشق لطلب المعارف العقلية والفلسفية ساعد في دراسته لهذه العلوم في مدة لا تزيد عن السبعة أعوام، ثمّ راح يؤلف الكتب الفلسفية، من جملتها شرح الجزء الأول من كتاب "أصول الفلسفة".
وفي العام 1369 هـ بدأ بدراسته المنهجية للعلوم التعليمية فاشترك في حلقة درس الأستاذ العلامة الطباطبائي حيث درس عنهد الإلهيات وكتاب "الشفاء" لابن سينا ثم اشترك في درس العلامة الخاص حول الفلسفة المادية، كما انتفع من دراسات الإمام الخميني قدس سره والعلامة الطباطبائي والمرحوم الميرزا مهدي الآشيتاني.
وبالإضافة لإحاطته بالفلسفة الإسلامية تميز الأستاذ باطلاعه الشامل على الفلسفة الغربية وقد استطاع من خلال ذلك معرفة القيمة الحقيقية للفلسفة الإسلامية من خلال مقارنتها بالفلسفات الأخرى وبالأخص الفلسفة اليونانية، ويقول حول ذلك في كتابه العدل الإلهي:
"إن الحكمة الإلهية في المشرق الإسلامي هي جوهرة عظيمة غالية، أوجدتها أنوار الإسلام الوضاءة وأهدتها إلى البشرية جمعاء ولكن مع بالغ الأسف فإنّ الذين اطلعوا على هذه الجوهرة العظيمة اطلاعاً عميقاً هم ثلة قليلة للغاية، فيما صبّ عليها الجهلة والأعداء والمتعصبون أشكال الظلم.
وكان الناس يتوهمون أنّ الحكمة الإلهية هي الفلسفة اليونانية القديمة نفسها تسللت إلى الإسلام بطريقة غير مقبولة وهؤلاء يرتكبون بذلك – عن علم أو جهل – جريمة عظمى بحقّ الإسلام والمعارف الإسلامية، فالحكمة الإسلامية تختلف عن الفلسفة اليونانية بالدرجة نفسها التي يختلف بها علم الفيزياء عند "إينشتاين" عن علم الفيزياء عند اليونانيين، وهناك أدلّة على أنّ حتى "إلهيات" ابن سينا لم تصل إلى أوروبا كاملة والأوروبيون ما زالوا جاهلين بهذا الكنز العظيم...".
وقد توصل بدوره لحل الكثير من المعضلات الفلسفية من خلال فهمه للمعضلة وطرحها بشكل مبسط والإجابة عنها بأسلوب سهل غير معقد. وكما أبدى الشهيد جهوداً مكثفة في مجال نقد الفلسفة المادية فقد بدأ دراستها بصورة مباشرة في العام 1365 ه وقام بمقارنتها بمعارف الفلسفة الإلهية العميقة فأدرك بوضوح ضعفها وخواء أسسها. يقول بهذا الخصوص في مقالته "المادية في إيران":
"كنت أطالع بشوق وحب وعشق كبير الفلسفة الإلهية والفلسفة المادية وأناقشهما، وحتى عندما كنت في قم تيقنت وبصورة جازمة من حقيقة أن الفلسفة المادية ما هي بفلسفة حقيقية وكل من يفهم الفلسفة الإلهية بعمق يرى أنّ جميع أفكار وآراء الفلسفة المادية هي أوهام لا أكثر.
واليوم وبعد ستة وعشرين عاماً على ذلك التاريخ ومع استمراري في مطالعة كلا الفلسفتين، يتضاعف يوماً بعد آخر إيماني بحقيقة أنّ الفلسفة المادية، هي فلسفة الدين لا يعرفون الفلسفة...".
وكان مبحراً في فلسفة المشائين وكتب ابن سينا حيث كان الوحيد في مستوى الدكتوراه في هذا الفرع الفلسفي في كلية الإلهيات وكما كان محيطاً بالحكمة المتعالية لصدر المتألهين الشيرازي، وكل ذلك ساعده على جمع عصارة وخلاصة الأفكار الأصيلة والنقية لعظماء الفكر الإسلامي على مدى الأربعة عشر قرناً المنصرمة وكان بذلك عارفاً بالتطور التأريخي للأفكار الفلسفية والكلامية والعرفانية، بل أصبح له آراء ونظريات جديدة ومبتكرة في العديد من المعضلات الفلسفية الدقيقة، وهذه النظريات توضح أنه صاحب رأي معتبر في القضايا الفلسفية، وقد صرح بذلك العلامة الطباطبائي بهذه الحقيقة.
وقد درّس الأستاذ المطهري كتب الفلسفة الإسلامية كــ"الشفاء" لابن سينا و "المنظومة" للسبزواري و "الأسفار" لصدر المتألهين على مدى سنين في مدرسة "مروي" في طهران وكلية الإلهيات وحوزة قم المقدسة.
ولقد سنّ سنة حسنة في تدريس الفلسفة وهي التطرق إلى خلفيات السير التأريخي لكل مسألة من مسائلها وهذه سنة نادرة بين الفلاسفة المسلمين وينتفع منها العلماء الغربيون عادة والعمل بها يستلزم اطلاعاً كاملاً على نتاجات جميع الفلاسفة والمتكلمين والعرفاء والفهم العميق لآرائهم وهنا بعض أهم نتاجاته الفلسفية:
- مقدمة وشرح كتاب أصول الفلسفة (5 مجلدات).
- الدوافع نحو المادية.
- الإنسان والمصير.
- تصحيح كتاب "التحصيل" والتعليق عليه.
- المقالات الفلسفية (طبع حتى الآن 3 مجلدات).
- نقد الماركسية.
- شرح المنظومة المختصرة.
- الشرح المطول للمنظومة (4 مجلدات).
- الحركة والزمان (طبع مجلدان حتى الآن).
- دروس في كتاب الشفاء.
د-القرآن:
إن تبحر الأستاذ مطهري في العلوم العقلية والنقلية لم يبعده عن القرآن الكريم، كيف هذا وهو العاشق للقرآن الكريم وآياته ومعارفه، وكان حريصاً على تلاوة القرآن الكريم إذا كان يقرأن كل يوم نصف ساعة قبل النوم ثم أنّه كان يدرس تفسير القرآن في طهران لمدة خمسة عشر عاماً. أمّا طريقته الفضلى في التحقيق في المعارف القرآنية فهي البحث الموضوعي، وأطلق على هذا الأسلوب "معرفة القرآن" وقد ألّف كتباً حول القرآن الكريم منها "نظرية المعرفة في القرآن" و "فلسفة التأريخ في النظرة القرآنية". ولقد حثّ الطلاب الحوزويين على الاهتمام بتفسير القرآن الكريم وكان يتألم لقلة الاهتمام بتفسير القرآن ويقول حول ذلك: "يدرس الطالب الحوزوي كتاب الكفاية ثم يقرأ الرد على الكفاية والرد على الرد... ولكنه جاهل بتفسير القرآن الكريم...".
ه-نهج البلاغة:
من الأمور التي تعلق بها واهتمّ بها إلى أبعد الحدود تعمّقه بكتاب نهج البلاغة ويظهر ذلك من خلال استشهاده بمقاطع هذا الكتاب في محاضراته، وقد دفعه الاهتمام به إلى تأليف مقالات ضمن عنوان "في رحاب نهج البلاغة" ولقد كان الشهيد مولعاً منذ صغره بهذا الكتاب ويقول الشهيد عن ذلك: "أعترف أنّي كنت كمعظم أقراني من الطلبة بعيداً عن عوالم نهج البلاغة أتلقاه وكأني غريب عنه وأمر به وكأني بعيد عنه حتى سافرت إلى أصفهان.. فعرّفني التوفيق هناك برجل عارف بنهج البلاغة، فأخذ هذا الرجل بيدي وأوردني بعض مناهله وحينذاك شعرت بأنّي لم أكن أعرف هذا الكتاب الكبير..".
و- العرفان وفلسفة الأخلاق:
كان الشهيد مطهري ذا باع في نوعي العرفان العلمي والعملي واكتسب فيوضات عديدة بفضل تبحره في المعارف القرآنية والمفاهيم الإسلامية والعقلية ومن اللافت أنّه لم يكن مهتماً بالعرفان وحسب بل بحقيقة الوصول إلى العرفان الإسلامي الأصيل المتجسد بشخص الإمام علي عليه السلام.
وفي علم الأخلاق كان الشهيد عارفاً بعلم الأخلاق كما في سائر العلوم وقد قرأ الكثير من كتب الأخلاق. وله العديد من المحاضرات القيّمة التي نشرت تحت عنوان "الفلسفة الأخلاق". وكان يدأب على الحضور إلى دروس الإمام الخميني قدس سره وقد تأثر بها كثيراً، ومن المهم ذكره أنّ الفضائل الأخلاقية التي تحلّى بها الشهيد مطهري لم تتأتّ من مطالعته لكتب الأخلاق بل من خلال انجذابه إلى الشخصيات الكاملة التي تربى على أيديها.
في الختام هذا غيض من فيض حول الشهيد مطهري الذي زخرت أرجاء المعمورة بما أنجز وألف من كتب قيمة ساهمت في إعطاء الزخم لهذه الصحوة الإسلامية المباركة وقد عبّر الإمام الخميني قدس سره عن نموذجية الشهيد مطهري وشمولية علمه ونفاذ منشوراته التي أسهمت في هداية جيل الشباب بقوله قدس سره عنه:
"المرحوم المطهري كان شخصاً واحداً اجتمعت فيه أبعاد شتى ويندر أن قدّم شخص واحد الخدمات التي قدمها لجيل الشباب وغيرهم، آثاره جميعاً جيدة بلا استثناء ولا أعرف شخصاً غيره يمكن أن أقول بشأنه إنّ جميع آثاره جيدة بلا استثناء، أما هو فإنّ جميع آثاره جيّدة تربي الإنسان وتصنعه".
* الشهيد مطهري في سطور
- مواليد عام 1919، قرية فريمان في محافة فراسان.
- درس السطوح في حوزة مشهد بدءاً من عام 1931.
- أكمل دراسته الدينية في قم بدءاً من العام 1936.
- أشهر أساتذته: الإمام الخميني، العلامة الطباطبائي، الميرزا مهدي الاشتياني.
- كتب ودرّس وحاضر في مختلف العلوم الإسلامية وله مؤلفات عديدة في هذا المجال.
- تابع دراسته العصرية حتّى نال الدكتوراه بجدارة عالية وكان الأستاذ الأول للفلسفة والإلهيات في جامعة طهران.
- عضو مجلس قيادة الثورة ومن رواد علمائها واليد اليمنى للإمام قدس سره .