آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص مجتمع | "الأمّ بتلمّ" مناسبة | من رُزق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حُبّها

شَابٌّ نَشأَ في عِبادَةِ اللّهِ

السيّد بلال وهبي


لمّا كانت مرحلة الشباب هي المرحلة الأهمّ في تكوّن الإنسان وتشكّله نفسيّاً، وروحيّاً، ومعرفيّاً، وفكريّاً، وعلميّاً، وثقافيّاً، فإنّ ذلك حتّم على الشاب أن يستجمع في مرحلة شبابه عناصر القوّة كلّها التي تجعله ثابتاً وقوراً أمام ما سيعصف به من رياح الحياة الهوجاء وعواصفها المدمّرة، وأن يتخيّر لنفسه السفينة القويّة التي تُبحر به عبر بحار الحياة المتلاطم موجها، وأن يحدّد قبل ذلك وجهته التي يتّجه إليها، وأن يظلّ مشدوداً إلى تلك الوجهة مهما عصفت به الأفكار، والمعتقدات، والأزمات؛ لأنّ الغفلة عن تلكم الوجهة كفيلة بضياعه وتيهه، وعدم تزوّده بعناصر القوّة كفيل بتشتّت أمره وانتهاء دوره. ولنحافظ على الروحيّة الإيمانيّة كان لنا هذا المقال.

•وجهة الحقّ
ولئن كان من واجب الأبوَين إعانة الشابّ على تحديد وجهته الحقّة، وتزويده بإمكانات المسير إليها، فإنّ على الشابّ أيضاً أن يجتهد في طلبها، والبحث عنها، والفوز بها، وأن يحرص على حقّانيّتها؛ لأنّ للناس وجهات عديدة، منها ما يكون حقّاً، ومنها ما يكون باطلاً، وقد تحدّث القرآن الكريم عن تعّدد وجهات الناس، وحثَّ الإنسان على انتخاب الوجهة الحقّة، وجهة الخير، والصلاح، والفوز، والفلاح، فقال: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: 148). والوجهة الحقّة في نظر القرآن الكريم هي الآخرة، حيث اللقاء بالله تعالى، وأمّا الحياة الدنيا فهي مرحلة يتسابق الناس فيها ويتنافسون للفوز في الآخرة، والجائزة هي الجنّة كما يقول أمير المؤمنين عَلِيٌّ عليه السلام : "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا أَدْبَرَتْ وَآذَنَتْ بِوَدَاعٍ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَشْرَفَتْ بِاطِّلَاعٍ، أَلَا وَإِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارَ وَغَداً السِّبَاقَ، وَالسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ"(1). وما خلق الله الإنسان إلّا ليسكنه الجنّة كما يقول أمير المؤمنين عَلِيٌّ عليه السلام : "إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلّا الْجَنَّةَ، فَلاَ تَبِيعُوهَا إِلّا بِهَا"(2).

•التزوّد بالطاقة الروحيّة
إنّ الحياة الدنيا رحلة، والإنسان مرتَحَل فيها وعنها، والوجهة هي الآخرة، قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6). فالإنسان يقطع رحلته كادحاً مجاهداً مكدّاً في بدنه، وعمله، وتفكيره، ومشاعره، متحمّلاً أعباء المسير، وذلك يحتاج إلى طاقة هائلة تمنحه القدرة على قطع المسافة إلى وجهته، والعزيمة على الاستمرار، وتجاوز المعوّقات، وتخطّي العقبات؛ ففي مسيره قد يتعب فيتراجع، وقد يتردّد فلا يثبت، وسيواجهه الصادّون عن السبيل السويّ، يثيرون فيه الشهوات والغرائز، ويغوونه ويضلّونه؛ وهنا، يحتاج إلى طاقة تدفعه إلى المضي ثابتاً على الطريق، وبصيرة يميّز بها الصواب من الخطأ، والحقّ من الباطل، والاستقامة من الانحراف. وتتمثّل هذه الطاقة بالارتباط بالله، والالتجاء إليه، والاعتصام بحبله، والتمسّك بعروته، واستمداد المعونة منه، ويتلخّص ذلك بالعبادة والصلاة كأبرز مصاديقها، فقال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة: 45 - 46). فالآية الأولى تحدّثت عن الاستعانة بالصبر والصلاة، والآية التالية ذكرت الوجهة، وهي ملاقاة الله والرجوع إليه.

وبناءً على ما سبق، فإنّ على الشاب المقبل على الحياة أن يبدأها من غير اعوجاج ولا انحراف، وأن يتحرّر من الارتهان لشهواته وغرائزه، وأن يتزوّد بطاقة روحيّة عالية تسهّل عليه قطع رحلته التي قد تطول وقد تقصر، وتنتهي به إلى الفوز والفلاح في الدار الآخرة.

•مقام الشابّ العابد
ورد في الخبر عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ اللهَ يُباهي بالشَّابِّ العابِدِ الملائِكَةَ، يقولُ: انْظُروا إلى عَبْدي تَرَكَ شَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلي"(3).

ما أعظم هذا المقام الذي يبلغه الشاب في حداثة سِنِّهِ ومقتبل عمره، فيباهي الله به ويفاخر الملائكة حتّى لكأنّه يفضّله عليهم، بل يفضّله؛ لأنّهم خَلْقٌ بلا شهوة، فأمّا هو فمخلوق مركّب من شهوة وعقل، فلمّا ترك شهوته، مع أنّها تضغط عليه، وانقطع إلى الله بالعبادة، فهو أفضل منهم بلا شكّ، فبالعبادة ارتقى إلى هذا المقام، وبالصلاة اجتاز تلكم المسافات. وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال: "إنَّ أَحبَّ الخلائقِ إلى اللهِ عزَّ وَجَلَّ شَابٌّ حَدِثُ السِّنِّ في صورةٍ حَسَنَةٍ، جَعَلَ شَبَابَهُ وَجَمَالَهُ لِلَّهِ وفي طَاعَتِهِ، ذلكَ الذي يُباهي بِهِ الرَّحْمنُ ملائِكَتَهُ، يقول: هَذا عَبْدي حَقاً"(4).

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "سَبْعَةٌ في ظِلِّ عَرْشِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يومَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إمامٌ عَادِلٌ وشَابٌّ نَشأَ في عِبادَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ..."(5).

•الصلاة في أوّل وقتها
من المقطوع به أنّ الصلاة التي تجعل من الشاب في ظلّ الله يوم لا ظلّ إلّا ظلّه، وترتقي به إلى مقام العبوديّة الحقّة، هي الصلاة التي يؤدّيها بحضور قلب وإقبال منه، وتفكّر في معاني أفعالها وأذكارها، فإنّ لكلّ فعل من أفعال الصلاة، وكلّ ذكر من أذكارها، ظاهراً وباطناً، وكلاهما مطلوبان، والعابد الحقّ هو الذي يحافظ على الظاهر ويغوص إلى الباطن، ولكلّ منهما أدب يجب أن يحافظ عليه، وأن يؤدّيها في أوقات فضيلتها، فلا يؤخّرها عنها لسهو، أو لهو، أو انشغال بمشاغل الدنيا، وإنّ أشرف أنواع الصلاة التي تؤدّى في أوّل وقتها، وقد قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ (الماعون: 4-5). وقد فُسِّرَ السهو عن الصلاة في الآية بتأخير أدائها حتّى ينقضي وقتها، فهؤلاء لهم الويل والثبور. وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا يزالُ الشيطانُ ذَعِراً منَ المؤمِنِ ما حافَظَ على الصلواتِ الخمسِ لوقتِهِنَّ، فإذا ضَيَّعَهُنَّ تَجَرَّأَ عليهِ، فأدخلَهُ في العظائمِ"(6).

إنّ الصلاة إذا ما أُدِّيَتْ في أوقاتها المحدّدة، وبإقبال من القلب، ومراعاة لآدابها هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي التي ترتقي بالعبد في مدارج التقوى، حتّى يصير المصلّي عبداً كامل العبوديّة لله

•الحرص على صلاة الصبح
لعلّ صلاة الصبح هي أهمّ صلاة يجب الحرص على أدائها في وقتها الذي وَقَّته الله تعالى، فإنّ الإنسان أكثر ما يلتذّ بالنوم في هذا المقطع من اليوم، فلربّما نام عن القيام لأدائها، وما أكثر من ينام عن ذلك! فضلاً عن أنّ صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، كما ورد في الأخبار التي فسّرت قول الله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ (الإسراء: 78).

•صلاة الليل.. معراج الروح
من أهمّ الصلوات التي تعرج بالعبد إلى مقامات العبوديّة الحقّة صلاة الليل، قال تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ (الإسراء: 79). ويكفيها فضلاً وشرفاً أن تكون هي المرقاة التي تعرج بالإنسان إلى المقام المحمود عند الله تبارك وتعالى، ولقد كانت وما زالت هي العبادة الأرقى التي يؤدّيها العبد في هدأة الليل وسكون الحياة على صفاء في الذهن، وحضور كامل ومشاعر طيّبة تخالج القلب. وقد روي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ما زالَ جَبرائيلُ يوصيني بِقِيامِ اللَّيلِ حتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ خِيارَ أُمَّتي لَنْ يناموا مِنَ اللَّيلِ إلّا قليلاً"(7).

إنّ الصلوات اليوميّة الخمس تأخذ بيد الإنسان إلى مقام التقوى، كما يذكر القرآن الكريم : ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ (العنكبوت: 45)، أمّا صلاة الليل، فإنّها تعرج بمصلّيها إلى المقام المحمود، وقد وصفها الله بوصف رائع بليغ، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ (المزمل: 6)، فوصفها بأنّها ﴿نَاشِئَةَ﴾، باعتبار ما تنشئه في نفس المصلّي من حالات معنويّة وروحيّة، وما تثيره فيها من نشاط وجذوة ملكوتيّة، ﴿وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾؛ أي أثبت للخير؛ لأنّها إعلان لسيطرة الروح، واستجابة لدعوة الله، وإيثار للأنس به، وإنّها لتسكب في القلب أنساً، وراحةً، وشفافيّة، ونوراً، قد لا يجدها القلب في صلاة النهار وذكره.

•قبل فوات الأوان
وهكذا، فإنّ الشباب أهمّ مرحلة يطويها الإنسان في رحلته الدنيويّة التي تنتهي بلقاء الله، وهي مرحلة يرجوها الطفل الصغير والشيخ الكبير؛ فالأوّل ينتظر أن يبلغها، وقد لا يدرك أهميتها فتفوته فرصتها، والثاني يتمنّى لو يرجع إليها، ويتحسّر على فواتها، خلا ذلك الإنسان الذي وُفِّقَ لها، فيتمنّى لو يرجع إليها ليستفيد منها أكبر قدر من الاستفادة.


1.نهج البلاغة، خطبة رقم 28.
2.(م.ن)، حكمة رقم 456.
3.ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص1401، في فضل من أفنى شبابه في طاعة الله.
4.(م.ن)، في فضل الشاب العابد.
5.(م.ن).
6.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج3، ص18.
7.ميزان الحكمة، (م.س)، ج2، ص1652، في فضل صلاة الليل.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع