نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

من القلب إلى كل القلوب: روح الإسلام حفظ النظام

سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)

قدَّم الإسلام رؤية واقعيّة متقدّمة جدّاً في منظومة القوانين، فهدفه الاجتماعي الحقيقي هو أن ينتظم الناس في أيّ مجتمع بنظام؛ لأنّ في ذلك مصالحهم واستقرارهم وتطوّرهم. ففي ظلّ النظام، تُحلّ مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية, وتقلّ منازعاتهم؛ لأنّ جلَّ ما يريده الإسلام، هو تنظيم حياة الناس بشكل أو بآخر.

وإنْ توافرَ القانون في دولة إسلامية كان الالتزام به فرضاً واضحاً، لكن إذا لم تكن هناك دولة إسلامية، لها قوانينها التي ترعى مصالح الناس، وتنظّم شؤونهم الحياتية، وتؤمّن هذا الهدف بشكل أو بآخر، لن يأتي الإسلام ليقول: إنّ هذه القوانين صادرة عن دولة غير إسلامية؛ لذلك فهي غير محترمة ولا يجب مراعاتها، وتصرّفوا كما يحلو لكم؛ أي الفوضى. فهذا خلاف الهدف.

لقد جاء الإسلام وقدَّم، بحسب اجتهاد فقهائنا ومراجعنا الكبار، مفهوماً يتحدّث عن: حفظ النظام العامّ، حفظ المصالح العامّة للناس وللمجتمع، عدم جواز الإخلال بالحياة العامّة، والنظام العامّ، والقوانين العامّة التي ترعى شؤون الناس وحياتهم ومصالحهم.

هنا، أريد أن أتطرّق إلى بعض التفاصيل حتى لا نبقى في العموميات:

* أولاً: قانون السير:
هناك أسئلة عدّة لدى المتديّنين حول قانون السير، مثلاً:

1- إشارات الطريق: الخضراء والحمراء والبرتقالية، هل يجب الالتزام بالإشارات؟ جواب المراجع: نعم، يجب الالتزام بقانون السير والإشارات حتى لو صدر هذا القانون عن حكومة أو دولة غير إسلامية. ثم يسأل المكلّف: إذا كنت أنتظر إشارة جواز المرور، وليس هناك من يسير في الشارع، لا رجل ولا امرأة ولا سيارة، أيجوز لي أن أتجاوز الإشارة؟ يجيب المرجع: لا يجوز لك ذلك.

يجب الالتزام بقانون إشارات السير، لا تجوز المخالفة. وليس الكلام من منظار مدنيّ وجزائي، باعتبار وجود غرامة وتحرير مخالفات، بل الكلام عن الحكم الشرعيّ.

2- وقود السيارات:
هناك قانون يُلزم باستخدام وقود البنزين للسيارات، هل يجوز، في هذه الحالة، تغيير المحرّك لاستخدام المازوت دون علم الدولة؟ الجواب: لا يجوز ذلك، لأنّ هذا خلاف القانون.

3- تجاوز السرعة المسموح بها:
إذا كان القانون لا يسمح أن نتجاوز سرعة معينة على الطريق الفلاني، هل يجوز أن أتجاوزها والطريق خالية أمامي؟ الجواب: لا يجوز ذلك أيضاً.

4- مكان وقوف السيارات: هل يجوز التوقّف في الأماكن التي يُمنع فيها إيقاف السيارات؟ يقول المرجع: لا يجوز لك ذلك. إننا نشاهد فعلاً حصول ازدحام السير بسبب مخالفة الوقوف في أماكن لا يجوز وقوف السيارات عندها. وهناك من يركن سيارته على الرصيف، وسيارات عدّة تقف إلى جانبه، فلا يبقى مجال للمرور. ويعيقون السير للتوقف بجانب (السوبرماركت) أو حتى بجانب المسجد. لماذا نتصرّف بهذه الطريقة التي تعيق حياة الناس وتوتّرهم وتصعّب عيشتهم؟!

إنّ هذا النظام عامّ، له علاقة بالناس ومصالحهم وحياتهم. فإذا خالفت النظام بحجّة أنه غير شرعيّ، هل سيتأذّى الحكّام غير الشرعيين من ذلك؟ لا، الناس هم الذين سوف يتأذّون. في النهاية، الضرر سوف يلحق بالناس وحياتهم وأعصابهم وأشغالهم، وستهدر أوقاتهم ودواماتهم. لذا، هنا يقول الفقهاء، وبكل وضوح: لا تجوز مخالفة القوانين.

* ثانياً: الوظيفة الرسمية:
يقوم أستاذ في مدرسة رسمية بعدم الالتزام بعمله بحجَّة أنه يعمل في مؤسسة دولة غير إسلامية. فيذهب لإثبات حضوره صباحاً ومساءً وينصرف، دون أن يُدرِّس، ويثبت حضوره آخر الدوام أيضاً لكنه لا يُدرِّس، أو مدير مدرسة دائم الغياب، أو ناظر... أو موظف في مستشفى حكومي، أو في القضاء، أو ما شاكل... إنّ جواب المراجع على هذه الأسئلة واضحٌ جداً: "لا يجوز شرعاً".
عندما يغيب الأساتذة والمديرون... فمن يخسر؟ إنه إضرارٌ بالناس، بعلم الناس، بمصالح الناس، وبأولاد الناس.

كذلك عندما يدمن الموظفون الغياب عن الإدارات، مَنْ الذي تتعطل معاملاته ومصالحه؟ نعم، الناس، أما الرؤساء والحكام والملوك والأمراء فلن يذهبوا إلى الإدارات ليقفوا بالصف. أضف إلى ذلك، ماذا يقول الفقهاء في موضوع الوظائف؟ يوجد اتّفاق بينك وبين الوزارة، وهذا الاتّفاق مُلزِم، فالمؤمنون عند عقودهم وشروطهم وعهودهم.
ويسألون الفقيه: هل يجوز لي أخذ الراتب حال الغياب؟ يأتي الجواب: لا يجوز أخذ الراتب على دوام أنت لم تحضره. ويصبح أخذ المال حراماً، ولو من دولة غير إسلامية.

أكثر من ذلك، حينما يتوجَّه سؤالٌ للسادة العلماء والمراجع عن جواز تمرير معاملات خاصّة أثناء الدوام، كالمهندس، مثلاً، عندما يقوم بإجراء معاملات تجارية أثناء الدوام، عبر الهاتف، ليس لها علاقة بالوظيفة، أيجوز ذلك؟ الأصل لا يجوز، إلّا إذا كان قانون الوظيفة يسمح بذلك بما لا يتنافى مع وظيفته، هنا المرجعية هي القانون بكلّ وضوح.

* ثالثاً: التهريب والجمارك:
قد يتعاطى بعض الناس بالتهريب، بحجَّة أيضاً أنّ الدولة غير إسلامية، والقوانين غير إسلامية، فما المشكلة؟! يسألون المراجع والشريعة، والجواب أيضاً: "لا يجوز"؛ لأن هذا يخلّ بالنظام العامّ، ويخلّ بالحياة العامة. سنشرح الموضوع قليلاً من خلال نقاط عدّة:

1- إنّ من أكبر الإشكالات في الوضع الاقتصادي اليوم في لبنان هو تدمير القطاعات الإنتاجية؛ فالقطاع الزراعي شبه مدمَّر، كذلك القطاع الصناعي، وهما قطاعان إنتاجيان، فلا نريد أن تقتصر قدرات بلادنا على الخدمات والبنوك والسياحة فقط، بل نريد قطاعات إنتاجية وفرص عمل لتتطوّر قدرات الناس الذاتية. الزراعة والصناعة من جملة الأمور التي تُكوِّن قوة ذاتية للبلد؛ لأنّ البلد الخدماتي عندما يواجه أيّ قانون عقوبات، ينتهي أمره. فإذا صدر مثلاً قانون يمنع "التعاطي مع البنوك اللبنانية" انتهى وضع البلد، أو حصل حصار على لبنان، انتهينا.

2- إنّ من أهم المسائل التي تحمي الإنتاج الزراعي والصناعي هي قوانين الجمارك، الضرائب وقانون الاستيراد.

3- إنّ التهريب هو من أهم عوامل ضرب القطاعات الإنتاجية، لماذا؟ لأنّ التهريب يؤمّن البضاعة بسعر أرخص من السعر الوطني. وبالتالي المهرّب يجني من الزراعات حين تصبح كلفة الإنتاج أعلى من سعر السوق، لأنّ هذه البضاعة أو المحصول الزراعي يأتي من جيراننا بكلفة أرخص من كلفة الإنتاج للمزارع اللبناني، ماذا سيحصل؟ البساتين والحقول ستقفر واليد العاملة ستتوقّف، وفرص العمل ستذهب...
وجواب الفقهاء هنا واضح أيضاً، وهو عدم الجواز، لأن هذه الأمثلة مصاديق لخرق النظام العام، ويجب "حفظ النظام العامّ". لذلك هذه القوانين يجب أن تُحترم.

وهذا هو الموقف الإسلامي الذي يراه فقهاؤنا الأجلّاء العلماء المجتهدون الأقدر على استنباط واستخراج الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية الصحيحة.
لنتعاون جميعاً، إن شاء الله، في معالجة هذا الموضوع وتسوية كلّ الأوضاع السابقة، وللانطلاق أمام مرحلة جديدة فيها مصلحتنا الدنيوية ومصلحتنا الآخروية.


(*) من كلمة عاشورائية لسماحته (حفظه الله) ألقاها بتاريخ: 7/محرّم الحرام/1431هــ - 23/12/2009. وقد جرى نشر الجزء الأول منها في العدد 281، ملف العدد.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع