مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

كربلاء ومسؤولية الأمة

بقلم: السيد هاشم صفي الدين

 



إنّ حادثة كربلاء الفريدة في التاريخ والمتميزة بمضامينها ودلالاتها تفرض التأمل والتدبر في كلّ مفرداتها. فالمأساة التي حصلت تستدعي حشداً كبيراً من الأسئلة هي بحاجة لأجوبة شافية بغية الوصول إلى مستوى متقدم من الإدراك لما حصل يقارب الإصابة في استجلاء الهدف الذي أراد الإمام الحسين عليه السلام تحقيقه، وهو الإمام المعصوم الذي واجه الأحداث وأقدم على فعل الجهاد والاستشهاد بطريقة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً حين اجتمع في تلك البقعة الطاهرة مع أهل بيته من النساء والأبناء والأطفال ومع الثلة الطاهرة من الأصحاب الأوفياء الذي بذلوا المهج واستبسلوا في الدفاع عن قضية أعطوها كلّ وجودهم بسخاء وطمأنينة. فكما يسجل التاريخ أن هؤلاء الأصحاب كانوا من أفضل أهل زمانهم إيماناً وعلماً وشجاعة ولم يكونوا مورد تهمة فإنّ الناس يعرفون جيداً أنّ الذي يقود هذا الجمع هو ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأفضلهم على الإطلاق... ومع هذا كله فقد ظلم وحوصر وقتل وسبيت نساؤه وشُرّد أطفاله على يد طغمة لئيمة يعرف الناس أيضاً منبتها وأصولها وفسادها، والسؤال الذي يرتسم هنا كيف يمكن لفاجعة من هذا النوع أن تحدث ولم يمضِ على وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوى ما يقارب الخمسين عاماً بعد أن حقّق لهؤلاء الناس دولة القرآن ورفع شأنهم إلى مصاف خير الأمم وأورثهم العزّ والمهابة وهداهم بنور الإيمان فإذا بهم يشهدون أفظع مأساة ترتكب بحق حفيده وهو الذي أعلن حبه له وضمه إلى صدره وأسماه حسيناً وقال "حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً".

قد يتصور المرء أنّ هناك انحرافاً يحصل وهذا أمر طبيعي في تجربة الأمم والشعوب أو ظلماً يمارس في حقّ فئة من الناس تسلب حقوقها وتهدر كراماتها أما أن يصل المر إلى مستوى ما حصل في كربلاء فإنّه غير طبيعي أبداً وينمّ عن حالة من الانحطاط كبيرة جداً تكشف عن درجة متهاوية في العقيدة والفكر والممارسة.

صحيح أنّ ثورة كربلاء هي ضرورة لا بدّ منها لإصلاح الأمة وتصويب مسارها وأنّ الإمام الحسين عليه السلام خرج لطلب الإصلاح في أمة جده صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ أنّ هذا واقع التكليف والممارسة من قِبل أهل الحق وأتباعه لكن ما ينبغي إدراكه في هذا المجال هو واقع الأمة الذي فرض تكليفاً من هذا القبيل واستدعى فعلاً كالذي حدث، وبعبارة أخرى لو افترضنا أنّ وضع الناس كان مغايراً هل كان يحصل ما حصل، وهذا يرشد إلى ضرورة البحث عن مسؤولية الأمة والناس وبشكل أعمق عن الأسباب التي أدت إلى هذا الخيار التعيس للناس وهنا لا ينبغي أن نعتبر أن الناس وأهل الكوفة تحديداً الذين كانوا هم مورد الامتحان مباشرةً قد وصلوا إلى ما وصلوا إليه دفعة واحدة من دون مقدمات بل نعتقد أنّ هناك أساباً فكرية وسياسية وعملية أوصلت الأمور إلى مرحلة حدوث الفاجعة الذي يكشف عن خلل رهيب في ضوابط حفظ الأمة الإسلامية التي أرساها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وفي الحقيقة فإنّ الإمام الحسين عليه السلام بشهادته وفعله أعاد للأمة توازنها وأحيا ضوابطها ودفع عنها خطر الزوال والاندثار لتبقى الأمة خير الأمم من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (كنتم خير أمّة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) وبذلك في سبيل ذلك أغلى الأثمان.

أما ما هي الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج فمن المعلوم تاريخياً أن المجتمع الذي حصلت فيه وصدرت عنه مأساة كربلاء هو مجتمع إسلامي الهوية من حيث الشكل والانتماء وحتى استخدام المصطلحات فالحكم يسمونه خليفة المسلمين والقاضي يحكم باسم الشريعة والناس تتوافد إلى المساجد في عباداتها وتظهر في علاقاتها الاجتماعية مفاهيم الإسلام وتعلم أجيالها القرآن وتعاليمه. إذن فالمشهد الخارجي لهذا المجتمع هو الإسلام. لكن المجتمع الإسلامي يقوم على دعائم ومرتكزات وأهمها هو الجانب العقائدي الذي يترجم في القلب إيماناً وفي المسلك أخلاقاً وفي السياسة حكماً بما أنزل الله من عدل وإنصاف وانتصار لقضايا الحق وما شاكل.

ومن الواضح أنّ كلّ هذه المفردات على أهمية كلّ واحدة منها تنهل من الأصل وهو الوحي الإلهي النازل على قلب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والذي أظهره قرآناً وأحاديث وسيرة وهذه النقطة تحديداً التي هي مرجع المرتكزات تعرضت لمحاولات التحريف والتأويل واستهدفت لأغراض سياسية وسلطوية. قاوم أمير المؤمنين عليه السلام كلّ هذه المحاولات وأوذي في سبيل ذلك وتمكّن من حفظها إلاّ أن آثار هذه المحاولات لم تنعدم وتسربت إلى داخل المجتمع الإسلامي والذي توسع بشكلٍ سريع وكبير والذي لم يكن محصناً ما فيه الكفاية فأثرت في مختلف جوانب الحياة فيه خاصة وأن الطريقة التي استخدمها بنو أمية في دس الأخبار وتأويل الأحاديث كانت تحافظ على شعار الإسلام وإلاّ كيف يصل الأمر إلى حدّ محاربة أمير المؤمنين عليه السلام ولعنه على المنابر لسنوات طويلة وهل في الأمة من لا يعرف أمير المؤمنين وفضله!؟. للأسف الجواب هو أن معاوية وأمثاله تمكنوا من زرع الشكوك وإيجاد المناخ المناسب للترويج المضلل وتحريف الحقائق، فلو سألنا أنفسنا اليوم هل يوجد من يقبل المقارنة بين أمير المؤمنين ومعاوية بالتأكيد لن نجد لكن الناس آنذاك قبلوا المقارنة كواقع سياسي بغض النظر عن ما حوته قلوبهم، وهنا نعود إلى السبب الأعمق وهو مستوى الإيمان عند الناس والصدق في تجسيد هذا الإيمان الذي يحدّد لهم مرجعية الأمور حين الشبهات كما حصل مع الإمام علي عليه السلام حينما خاطب أحدهم قائلاً له: ((أعرف الحق تعرف أهله إنّ الحق لا يعرف بالرجال))، لكن الزيغ الذي يطرأ على القلب نتيجة الموقف الخاطئ الناشئ من جبن أو ضعف أو الغروق في الرذيلة الذي يؤدي إلى اختلال في معرفة الحق أو في اتباعه على افتراض معرفته، هذا مضافاً إلى تتالي الضربات المعنوية التي وجهت للناس بفعل الأحداث والتلاعب بالحقائق فتقطعت أوصال الناس وأصبح المجتمع الإسلامي مفكّكاً بما يشبه العودة إلى تصنيفات قبل الإسلام فأهل الشام لهم رؤيتهم الخاص وأهل المدينة في شأن وأهل الكوفة في حال آخر وهكذا... إلى أن وصل الأمر إلى مرحلة تنصيب يزيد نفسه حاكماً على المسلمين معتمداً على خلفية اجتماعية سيئة وواقع متردٍ اختلطت فيه الأفكار والمفاهيم والرؤى وحتّى العقائدية منها.

إنّ أيّ مجتمع هو عرضة للانحرافات إلاّ أنّ الذي أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبر أحاديث متكرّرة ومستفيضة هو ضرورة تبني الخيار الذي أراده الله تعالى للأمة في تبعية القائد والولي حتّى لا تضل ولأجل هذا كان غدير خم وكان الاهتمام المباشر من شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الشأن حتى تكون الحجة بالغة وتامة والناس بعدئذٍ يختارون طريقهم ويحددون مواقعهم في الابتلاءات فمن يستمسك بالعروة الوثقى وحبل الله المتين يكتب لنفسه النجاة ولأمته الصلاح وحينما تهتز هذه القناعة عند الناس تصبح الأمة مكشوفة في خضم الأحداث والابتلاءات بل قد يصل الأمر بالبعض أن يعتبر أن وجود حاكم كيزيد هو أمر عادي وفي أحسن الأحوال لا شأن له به وربما أسّس البعض لمنطق التفريق بين الحاكم والولي المقصود في نص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيصبح الولي هو من تجب محبته واحترامه والحاكم هو من تجب طاعته بغض النظر عن صفاته وشأنه ومن الطبيعي أن فهماً من هذا القبيل لا يحصل دفعةً واحدة بل بفعل تراكم الأحداث وتداخل المفاهيم في الوقت الذي كان يفترض بالأمة أن تحافظ على نصوص الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ولا تفتح ثغرة أو تترك هامشاً للاجتهاد في مقابل الوحي الإلهي بما يستدعي تأويلاً غير منطقي لسيرة النبي ذاته، وهذا ما يدعونا لتسليط الضوء على الجهة المقابلة وهي أنّ الولاية الواجبة الطاعة والتي هي في صلب العقيدة منشأ الصلاح والحفظ ليس للشريعة فحسب بل للأمة في شتى شؤونها وعلى رأسها الشأن السياسي فلو أنّ الناس لم يصابوا بهذا الخلل الجوهري آنذاك لكانت اجتمعت كلمتهم واتحدوا في إطار الخيار الحق...

 لكن هذه المفاهيم الخاطئة سرت إلى العقول ولم يجدوا فيها غضاضة أو معارضة للإسلام وبدأوا بالانكفاء والتراجع تحت عناوين مختلفة ومبرّرات متعدّدة دخلت فيها المصالح الشخصية والعشائرية والقومية وما شاكل حتّى أعتبر البعض أن الصراع بين الإمام الحسين عليه السلام ويزيد هو صراع على السلطة بين الطالبيين والأمويين أو بين شخصين يعتقد كلّ واحد منهما الحق إلى جانبه فحينئذٍ يفترض أن يكون الموقف في هكذا قضية هو الأوفق بالمصلحة الخاصة مع التسليم المسبق عند البعض الآخر أنّ القلوب مع الحسين عليه السلام من ناحية القناعة أو العاطفة أو النسب إلاّ أنّ السيوف مع يزيد لأنّ السيف موقف والموقف هو وليد المصلحة الخاصّة وهذا عين الانحراف، وبكلمة واحدة حينما تصبح المقاييس في الموقف السياسي نابعة من هكذا خلفيات يعني ذلك النكوص والرجوع إلى منطق الجاهلية بعيداً عن الإسلام ومبادئه في أخطر قضية وهي الحكومة.

مما لا شكّ فيه أنّ هذه النمط كان موجوداً بقوة وبكثرة في ذلك الوقت ولعلّه من خلال هذه الرؤية للواقع كانت تسدى النصائح للإمام الحسين عليه السلام بضرورة العزوف والإعراض عن ما هو قادم عليه وكان جوابه إن الله شاء أن يراني قتيلاً ليس من باب التسليم لمشيئة الله فحسب بل من باب اليقين بأن ما يريده هو غير ما يريدون، ما يريده لا يحصل إلاّ بالشهادة.

ثمّ قد يقول قائل أنّ ما ذكر ينطبق على غير أهل الكوفة الذي عرفوا تاريخاً بالولاء لأهل البيت عليه السلام وهم الذين دعوا الإمام الحسين عليه السلام ليبايعون وينصروه فإذا بهم يخذلونه وهنا أشير إلى أنّ سياسة الترغيب والترهيب التي استخدمها ابن زياد فعلت فعلها في مجتمع أهل الكوفة المنهك بفعل أحداث التاريخ والذي امتلك خصائص ومواصفات جعلته يسقط في الامتحان وبالتالي لم يمتلك القدرة الكافية لمواجهة الأساليب الأموية وهذا بنفسه يكشف أيضاً عن ضعف في الإيمان والولاء وهم الذين عبّر عنهم الفرزدق في كلامه للإمام الحسين عليه السلام: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك"، فلم تصل درجة الولاء عندهم إلى حمل السيف للدفاع عن معتقدهم بل سرعان ما انقلبوا إلى الجهة المعاكسة أو المحايدة حينما هددت مصالحهم وحياتهم وما حصل لمسلم بن عقيل هو خير دليل على ما نذكر فلم يثبت منهم إلاّ القلة التي صبرت وجاهدت واستشهدت وهذا يؤكد هشاشة الخلفية التي اعتمد عليها هؤلاء القوم في بعث الكتب والرسل للإمام الحسين عليه السلام يطلبون منه القدوم إليهم وربما كانت دعواتهم هذه نابعة من مصالح خاصة بهم حيث يعلمون أنّ حكم بين أمية ليس في صالحهم على أي حال فقد يعوض لهم الحسين عليه السلام بعض ما فقدوه من خلال الظلم والحيف الذي يلاقونه أو قد يصلون إلى مآرب خاصة يطمحون إليها حتّى إذا ما تضاربت مصالحهم مع دعوة الحسين عليه السلام تركوه وحيداً وتفرقوا عنه وأصبحوا فريسة سهلة المنال بيد الدعاية الإعلامية المضادة فما أسرعهم إلى التشكيك والتخاذل وهذا نفس ما آلم أمير المؤمنين عليه السلام حيث كان يعلم لهم تعجبه من تفرقهم عن حقهم واجتماع عدوهم على باطله.

وفي الخلاصة أنّ هذا الواقع السيء الذي تجمع من خلال تراكمات مختلفة ودواع شتى أوجد أرضية خصبة للانحراف والتخاذل عن الإمام الحسين عليه السلام وبالتالي أفقد الأمة أحد أهم شرائط التغيير الذي يعتمد على فعل الناس "إنّ الله لا يغير ما بقوم حتّى يغيروا ما بأنفسهم" فكان البديل هو النهج الحسيني لحفظ الدين والأمة وتخليد الاستشهاد طريقاً لإنقاذ المبادئ والقيم.
ومن خلال ما ذكر تتضح المسؤولية الكبرى الملقاة على المسلمين في الانقياد للولاية وفي غير ذلك فهم مسؤولون أمام الله والتاريخ عن أيّة ثلمة تصيب الإسلام والأمة فكيف الحال إذا كانت بحجم مأساة كربلاء.
"أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين".



 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع