أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

التعبئة والإعداد

الشيخ نعيم قاسم


* خلع الثوب الدنيوي:
أول خطوة للحاج إلى بيت الله الحرام في أداء الواجب لباس الإحرام، وهو عبارة عن ثوبين غير مخيطين للرجل يأتزر بأحدهما ويضع الآخر على كتفيه، وعبارة عن ثياب تستر جسد المرأة كما هو الستر الشرعي ولا تغطي وجهها. هذا اللباس مقدمة للتخلي عما عداه، ويرافقه محرمات الإحرام كالطيب ولبس الحلي والنظر في المرآة وتقليم الأظافر وغيرها. فالمطلوب هو الستر المجرد من الزينة مما يُسقط كل الاهتمامات التي تركز على الجمال والظاهر الدنيوية ليحل محلها الاهتمام بالعبادة والصلة مع الله جلَّ وعلا. إنه بداية خلع الثوب الدنيوي من نفس الإنسان ليستبدله بالثوب الأخروي في الإقبال على الله تعالى ليوم الحساب، فكما يترك ملابسه وزينته في الدنيا ويلبس الكفن عند موته فإنه يعيش حالة من تربية النفس وتعبئتها لتكون مهيأة بعد الخطوات الأخرى في الحج حتى تأخذ الشحنة المعنوية والروحية الكافية للاستفادة من هذه العبادة العظيمة، وكما قالت السيدة الزهراء عليها السلام: "جعل الله... الحج تشييداً للدين"، لأن اجتماع أعداد كبيرة من الأمة الإسلامية في مكان واحد وزمان واحد يقوي بنيان الإسلام عندما يتأسس العمل على التقوى.

* الوحدانية:
كل خطوات الحج تتمركز حول الوحدانية للَّه تعالى، فالطواف حول الكعبة الشريفة دوران حول الأمر الإلهي، والسعي بين الصفا والمروة حركة باتجاه الأمر الإلهي، والقص أو الحلاقة تعبير عن لفظ الآثام التي تبعد عن الله تعالى، ورمي الجمرات رمي للشياطين في منعهم للإنسان من التفاني في حب خالقه وطاعته، والذبح تضحية في دائرة الغطاء للَّه جلَّ وعلا... إنها تعبئة روحية بكل المعاني ليكون الفرد مسلَّحاً بالعلاقة مع الله وما تعنيه من قذوة وإيمان وانضباط ضمن الأوامر والنواهي الإلهية، ونلاحظ أن الممنوعات الإضافية أثناء الحج تساهم في تهيئة النفس الإنسانية للتقبل بتغيير النمط السائد وتوفير المناخ الملائم للاستعداد للمرحلة الجديدة، والهدف الوصول إلى التقوى وزيادة فعاليتها في واقع الحياة. يقول تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ  (1). ويقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: "جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته وإذعانهم لعزته، واختار من خلقه سُمَّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدَّقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرضه يحرزون الأرباح في متجر عبادته"(2).

لكن الشيطان للإنسان بالمرصاد، وهو يبذل جهوداً كبيرة لحرفه عن طاعة الله: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(3). فلا بدَّ من مواجهته، والمواجهة تتطلب استعداداً، والمجيء إلى الحج بتعبئة واستعداد لمواجهة الشيطان، إن الرمزية الموجودة في كل منسك من مناسك الحج تشكل دواء متنوع الفوائد والآثار، شرط أن يتجه الحاج إلى هذه الخصوصية، وهي تعطي كل واحد بمقدار ما يلتفت إليها ويتفاعل معها، وتساعده أعمال الحج على الالتفات، ويعينه جمع الحجيج على معرفة قدر نفسه كفرد من ملايين مزدحمة، وتدعمه الصلوات والأدعية والأجواء الروحية في هذه البقعة المباركة وفي الزمان المحدد لمزيد من التعبئة. إن الوقوف في عرفة هو تأكيد وتسليم للخالق، إن قصد إلى مكان التجلي الإلهي على عباده المؤمنين المطيعين بالرحمة والمغفرة، إنه العهد في رفض الشيطان وأحابيله مهما كانت صورته ومهما كانت مغرياته، إنه الوقوف مع الوحدانية في مقابل الشرك، ومع الطاعة في مقابل المعصية. إنَّه شحن النفس بعزيمة من الله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ(4). لاحظ دعاء الإمام الحسين في عرفة: "يا من عفا عن عظيم الذنوب بحلمه، يا من أسبغ النعماء بفضله، يا من أعطى الجزيل بكرمه، يا عدتي في شدتي، يا صاحبي في وحدتي، يا غياثي في كربتي، يا وليي في نعمتي"(5).

* تدريب وتأهيل:
ويأتي التدريب العملي ليساهم في التعبئة، فجمع الحصى لرمي الشياطين من المزدلفة كاستعداد وتهيؤ، وهي بمواصفات محددة وبأعداد محددة. ليبقى الانتظار إلى الفجر كتحديد لوقت الانطلاق، فلا استعجال ولا حرق للمراحل، كل شيء في وقته المحدد وضمن خطة مدروسة وإعداد متقن، ليأتي رمي الجمرات أو الشياطين الثلاثة: الكبير والوسط والصغير.

* للمعركة مواصفاتها:
1 الرمي في كل حولة عند استهداف الشيطان بسبع حصيات.
2 يجب التأكد من الإصابة.
3 يوم العيد يكون الرمي للجمرة الكبرى فقط، ليكون التركيز على رأس المصائب وكي لا تضيع الأولويات بتفاصيل أخرى.
4 في اليومين التاليين يُرمى الثلاثة بالتتابع من الجمرة الصغرى إلى الوسطى ثم الكبرى، كي لا تغفل التفاصيل في مرحلة تالية، فالرفض للصغائر وللكبائر، لصغار الشياطين ولكبارهم. إنها مواجهة حقيقية، يضرب الحاج الجمرة من كل قلبه، ويشعر باقتلاع الشيطان من جذوره، ويخرج مرتاحاً لما أنجز من أداء شعائر الله تعالى، إنها خطوة للحياة، لأن المواجهة لن تتوقف أبداً: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيه(6).

* الإعداد:
وهل يمكن مواجهة العدو الظاهري بدون إعداد؟ فإذا كان العدو الداخلي يحتاج إلى هذا الإعداد الكبير فحتى يكون مهيأ لمواجهة أعداء الخارج، أعداء الإنسانية، أعداء الحق. وهو أمر دفاعي، فالجهاد مدافعة لشياطين الأنس والجن، ومدافعة لمؤثرات النفس واحتلال الأرض، إنه طرد لمحتل النفس لتنقى من الآثام، وطرد لمحتل الأرض والحق الإنساني لينقى من الظلم والعدوان. والله تعالى يأمرنا بالإعداد: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ(7) وذلك بهدف استخدام القوة عندما نحتاجها، وتكون القوة بقدر استطاعتنا، لكن لا يجوز إهمال الاستعداد والتهيؤ لمواجهة الأعداء، فهم لن يدعونا، فإذا استعدينا استخدمنا قوتنا عند الحاجة لها. أما إذا لم نكن مستعدين فسيهزمنا العدو بأبسط أسلحته بل بمجرد التهديد بها. إذا كنا أقوياء نحافظ على حقوقنا ونحمي ساحتنا ونحرر أرضنا ونحصل بالحد الأدنى على فرصة لاسترداد أرضنا وحقوقنا، ولا يمكن الفصل بين الإعداد الروحي والإعداد المادي، فالتجربة العملية للمقاومة الإسلامية في لبنان تثبت أن الجانب الروحي هو الذي رفع مستوى تأثير الأسلحة وتحقيق الانتصار على الأعداء، وبدونه لا إمكانية للانتصار الحقيقي. فالأسلحة متوفرة عند الكثيرين سواء في الأنظمة أو المنظمات لكن عدم وجود الصفاء الروحي والثقة بنصر الله تعالى والارتباط بأوامره، يجعل الأسلحة بلا فائدة في مواجهة العدو وتضل وظيفتها. وهنا نفهم توجيه النبي صلى الله عليه وآله عندما تحدث مع مجموعة من المسلمين أنهت مهمتها في إحدى الغزوات قائلاً: "مرحباً يقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر قالوا وما الجهاد الأكبر يا رسول الله صلى الله عليه وآله. قال: جهاد النفس"(8). مما يؤكد أن استمرار الجاح يتطلب أعداداً إيمانياً وأعداداً عسكرياً، والثاني فرع الأول، وما نراه من إعداد روحي في الحج فهو لمواجهة الشيطان في الحياة وبدونه لا إمكانية على الصمود.

إننا نرد كل ثمرات جهاد المقاومة الإسلامية إلى الارتباط بالله تعالى، فهو الموجه نحو الهدف السليم، وهو المقوي في المواجهة، وهو الذي يعطي الثقة بنصر الله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ(9) وهو الذي يرفع من مستوى القوى المادية التي نمتلكها. ولا يكفي الدعاء على الكافرين، بل لا بدَّ من الإعداد الذي يبرز من خلال الأداء اليومي والمنهجية العامة للسلوك الثقافي والسياسي والعملي والجهادي. أن التربية على الاقتداء بسيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام هو الذي يعطي دفعاً قوياً في توجيه النفس نحو استقبال الشهادة في سبيل الله تعالى كأمر معشوق، والارتباط بالولاية هو الذي يطمئن في اختيار الخط السليم، فتكون الإمكانات المعدَّة عاملاً ضرورياً يتكامل مع التربية لتحقيق أهداف الإسلام ومواجهة المعتدين والظلمة.

* تعبئة الأمة:
لقد ركز الإمام الخميني قدس سره على الجانب التعبوي في الأمة، فحمّل الجميع مسؤولية القيام بالواجب لصد الأعداء وحماية النظام الإسلامي. وأنشأ قوات التعبئة العامة التي تضم جميع شباب وأفراد المجتمع ليكون لكل واحد دور في الأمة، بل اعتبر المشاركة تكليفاً شرعياً، ففي نداء وجهه للشعب حول التعبئة قال: "إنني أشكر شعب إيران الشريف والشبان البواسل الذين رحبوا بالتعبئة العامة. إن الدفاع عن الإسلام والبلد الإسلامي تكليف شرعي وإلهي ووطني في موارد الخطر وواجب على جميع الطبقات والجماعات... إن أغفلتم ولم تستعدوا بحزم وقوة بوجه أعداء البشرية، أو لم تستعدوا للدفاع عن البلد والإسلام عن طريق التعبئة العامة التي لا تتمكن أي قوة أن تقابلها فإنكم ستجرون أنفسكم وبلادكم إلى الفناء... حاولوا أن تكونوا أقوياء بصورة أكثر بالعلم والعمل والاتكال على الله القدير، وتجهزوا بالسلاح فإن الله العظيم معكم!"(10). فالتعبئة عند الإمام الخميني قدس سره هي تعبئة روحية وثقافية وجهادية لأنها تعبير عن التوازن في الشخصية الإسلامية، ولا يمكن حماية البلد بل لا يمكن حماية حياة الإنسان إلاَّ إذا قام الجميع بواجباتهم في العمل الدؤوب لتعزيز قدرات الأفراد والأمة.

* تكامل التعبئة والإعداد:
وفي الاتجاه نفسه ركز الإمام الخامنئي دام ظله ورعاه، فإعداد الأمة من أصعب وأشرف وأهم المهمات، وهي تكليف العلماء وقوات الحرس وكل الطاقات لفاعلة، وهي تتطلب جهوداً ضخمة في كل الحقول، ولا يمكن الاقتصار على ظواهر القوة المادية أو العسكرية بل يجب التركيز على محرك هذه القوة هي تقوى الله والارتباط به والنجاح في جهاد النفس. يوجه إمامنا الخامنئي دام ظله حرس الثورة الإسلامية، فيقول: "لعلني أستطيع أن أقول أن العناية بالتعبئة على المدى البعيد هي أهم من جميع مهمات الحرس، فإعداد الأمة مهمة عالية"(11). ويتوجه إلى القادة القدوة ليتحلوا بالصفات الإيمانية الأصيلة لأنهم في موقع التأثير، وسينعكس أداؤهم وتربيتهم على الأفراد الذين يعملون معهم: "يجب على جميع القادة أن يعتبروا تهذيب النفس تكليفاً"(12). ومهما كانت العناوين التي نتحدث عنها كبيرة، كعنوان إقامة حكم الله تعالى عل الأرض، أو حاكمية الإسلام، فإن علينا الالتفات بأهمية حفظ هذه العناوين من خلال القلب الذي يوجهنا إلى الحماية الحقيقية لهذه الشعارات.

فقد يقع الإنسان فريسة المظاهر والعناوين الكبرى لكن الضمانة أكيدة مع جهاد النفس، فإمامنا الخامنئي دام ظله يقول: "لا يكفي أن يكتف المجاهدون في سبيل الله وفي طريق حاكمية الإسلام على بناء مجتمع ونظام إسلامي، وإن كان هذا تكليفاً أعلى وواجباً كبيراً، ولعله أكثر واجبات المؤمن والمسلم أهمية، ولكن إلى جانب الجهاد الذي نقوم به لأجل إيجاد نظام إسلامي وتطويره وانتصاره، يوجد جهاد آخر ولعله أشد صعوبة وهو إيجاد تحول وثورة في قلوبنا ونفوسنا ووجودنا"(13).

إن عبادات الإسلام والروحانية التي يدعونا إليها والتقوى التي يريدنا الوصول إليها، ترتبط مباشرة بكل أشكال الحياة السياسية والاجتماعية والجهادية والثقافية وهي تحصين للفرد في مواجهة أعداء النفس وأعداء البشرية، فالحج وفادة إلى الله تعالى لتقوية النفس في مواجهة شيطانها، وتأديب وتعبئة للبراءة من المشركين ومواجهة انحرافهم وعدوانهم وتسلطهم، فالتعبئة والإعداد متلازمان دائماً، فلا فائدة من تعبئة روحية يحاصرها سوء أداء عملي أو إهمال للإعداد، ولا فائدة من أعداد عسكري أو مادي لا يتوجه من النفس المؤمنة المطمئنة، وهنيئاً لمن أعد واستعد لوفادة إلى خالق الوجود بأعمال صالحة ونصر على الشيطان.


(1) سورة البقرة الآية 197.
(2) نهج البلاغة الخطبة رقم 2.
(3) سورة ص الآية 82 و83.
(4) سورة الحج الآية 32.
(5) مفاتيح الجنان ص332.
(6) سورة الأنفال الآية 60.
(7) وسائل الشيعة للحر العاملي ج11 ص122.
(8) سورة الروم الآية 47.
(9) مختارات من أقوال الإمام الخميني قدس سره وزارة الإرشاد ص16.
(10) أنوار الولاية إصدار مركز بقية الله الأعظم ص69.
(11) نفس المصدر ص70.
(12) نفس المصدر ص74.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع