نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مناشئ الفساد عند الإنسان‏

الشيخ محمد توفيق المقداد

 



مما لا شك فيه أن اللَّه عزَّ وجلَّ قد خلق الإنسان وهو مؤهَّل للوصول إلى كمالاته الإيمانية، كما هو مُعرَّض للسقوط إلى مقام ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا(الفرقان: 44)، وهذا وفقاً لما تقرره الآية الكريمة ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (الشمس: 10). ولكن بما أننا نتكلم عن الجانب السلبي من النفس البشرية وهو "وصولها إلى مرحلة الفساد العملي في الحياة الدنيا المتمثل بفعل ما يخالف التوجيهات الإلهية والسير وفق الرغبات والأهواء المنحرفة" فهذا يعني أن هناك خللاً في هذه النفس، وهذا الخلل لا بد أنه ناتج عن أسباب كامنة في أعماق النفس البشرية، لأن ما يصدر عنها من أفعال هو انعكاس لما هو موجود في باطنها، ومن هنا كان المناسب الحديث عن أسباب الفساد على مستوى النفس وعن مناشئ الفساد التي تدفع بالإنسان إلى تحدي الذات الإلهية المقدسة في الفعل والقول البعيدين عن جادة الحق والعدل والاستقامة.

وبما أن مناشئ الفساد في النفس البشرية متنوعة وعديدة، فإننا سوف نقصر الكلام على الأسباب الرئيسة للفساد وهي التالية:
1- نسيان الموت: لأن الإنسان عندما ينسى الموت ويغفل عنه يتصور نفسه أنه سوف يستمر في هذه الدنيا الفانية مما يدفع به بالتالي إلى نسيان الآخرة ومواقفها وما يتفرع عنها من العذاب والنار والعقاب الإلهي، وهذا ما يُضعف المناعة الذاتية لمقاومة جذور الفساد في النفس مما يُسهِّل على الإنسان الغارق في سكرة نسيان الموت الغوص في البُعد عن الذات الإلهية المقدسة على المستوى الإيماني والروحي وما يستتبع هذا البعد النفسي من بُعدٍ على مستوى السلوك والسير المنحرف في الحياة الدنيا. وقد ورد حديث مهم عن أمير المؤمنين في نسيان الموت جاء فيه (... وآخر قد تسمَّى عالماً وليس به... فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتبعه، ولا باب العمى فيصُدُّ عنه وذلك ميت الأحياء)، وكلما قوي نسيان الموت كلما قوي الانحراف في النفس البشرية وتصبح مستعدة للفساد أكثر، بل قد يصل نسيان الموت بالإنسان إلى حدِّ ادِّعاء الربوبية ومحاربة اللَّه عزَّ وجلَّ كما حدث مع نمرود إبراهيم وفرعون موسى، ومن هنا فقد أمرنا الإسلام بعدم نسيان الموت وبتذكره على الدوام حتى لا نضيع ولا ننحرف عن الصراط المستقيم ومن الأحاديث ما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً وعنه صلى الله عليه وآله : (أكثروا ذكر الموت، فإنه يمحص الذنوب، ويزهِّد في الدنيا).

2- وسوسة الشيطان: لأن الشيطان عندما صار مطروداً من جنة اللَّه ومُبعداً عن رحمته أقسم أن يجعل الناس تنحرف عن الصراط المستقيم عبر وسوساته التي يزرعها في قلب الإنسان وعقله وروحه، وإذا تمكن الشيطان من زرع وسوساته المنحرفة في نفس الإنسان وقلبه وعقله فقد سيطر عليه وصار الإنسان جندياً من جنود إبليس مع ما يترتب على الوصول إلى هذا المستوى من الفساد على مستوى النفس التي تصبح مرتعاً للشيطان ومسرحاً له. من هنا، فإن على الإنسان أن يحارب وسوسة الشيطان اللعين الرجيم لينجو من أخطاره وشروره ولذا ورد في قوله تعالى في سورة الناس ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (الناس: 5-4)، وقد ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله (ما منكم من أحد إلا وله شيطان قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ولا أنا، إلا أن اللَّه عزَّ وجلَّ أعانني عليه فأسلم). فالوسوسة إذاً من أهم مناشئ الفساد لأنها من الشيطان، وعندما تتحكم هذه الوسوسة في القلب فإنها تطرد ذكر اللَّه، لأن القلب لا يتسع للوسوسة وذكر اللَّه معاً، لأن الواحد منهما ضد للآخر وعدو له، ولأن الفرق بينهما كالفرق بين النور والظلام والموت والحياة حيث لا يمكن أن يجتمعا في وقت واحد في القلب. فالوسوسة الشيطانية هي التي تزين للإنسان الانحرافات والابتعاد عن الصراط المستقيم وتجعل الإنسان عبداً للشهوة واللذة والرذيلة، لأن الشيطان يزيِّن الفعل القبيح للإنسان في نفسه فيجعله مستعداً للقيام به من دون خوف من اللَّه أو من دون شعور الإنسان بأنه مراقب من جانب اللَّه، ومحاسَب على أفعاله القبيحة الناتجة عن باطنه الشيطاني المملوء بالوسوسة.

3- طول الأمل واتِّباع الهوى: وقد قال اللَّه عزَّ وجلَّ في كتابه المبارك عن الأمل ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (الحجر: 3)، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله "إذا أصبحت فلا تحدِّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدِّث نفسك بالصباح، وخُذْ من دنياك لآخرتك، ومن حياتك لموتك، ومن صحتك لسقمك، فإنك يا عبد اللَّه لا تدري ما اسمك غداً"، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: (إن أشد ما أخاف عليكم خصلتان "إتباع الهوى وطول الأمل"، أما اتِّباع الهوى فإنه يعدل عن الحق، وأما طول الأمل فإنه يحبِّب الدنيا...)، والهوى هو عبارة عن "حب الشي‏ء واشتهاؤه" والإتِّباع هو السير وراء المشتهيات الباطلة التي تميل إليها النفس الأمارة بالسوء لولا العقل والشرع اللذان يكبحان جماح النفس، فإذا لم يكبح العبد جماح نفسه وقع في الهوى المحرم وهو كما قال اللَّه في كتابه الكريم ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (ص: 26) و ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّه (القصص: 50)، فرغبات النفس لا تنتهي عند حد فما أن يحقق الإنسان رغبة منحرفة عنها حتى تزداد حاجة النفس إلى ما هو أكثر وهكذا حتى يصل الإنسان إلى مرحلة يغرق فيها نفسياً ولا يعود قادراً للاهتداء إلى طريق الحق للرجوع إليه، ولذا ورد في الحديث الشريف (إحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم)، وأما طول الأمل فهو باعث على نسيان الآخرة والارتباط بالدنيا الفانية، لأن طول الأمل يوهم طول البقاء، وطول البقاء يوهم استمرار الإنسان في هذه الدنيا وأن هناك متسعاً من الوقت أمام الإنسان، وهذا ما يمنع من تفكير العبد في المقصد الأساس من خلقه وهو الآخرة، ولزوم السير إليها بالطريقة التي تنجيه عند اللَّه عزَّ وجلَّ يوم القيامة، وإذا سار العبد مع الدنيا الفانية فإنه سيغرق في متاهاتها وأغراضها الدنية التي يتوهم الإنسان أنها أهدافه التي من أجلها أعطاه اللَّه الحياة، وإذا غرق في هذا الجو الدنيوي المشبع بالرغبات والشهوات، فإن القلب سيصبح بعيداً عن اللَّه عزَّ وجلَّ، وقد يصل الإنسان في هذا المسار إلى حد عدم القدرة على الرجوع طبقاً لقوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(المطففين: 14) أي أن انغماسهم في ملذات الدنيا يجعل على قلوبهم غشاوة تمنعهم من رؤية الحق تعالى والعودة إليه والارتباط به، ولذا ورد في الدعاء تنبيهاً للإنسان عن التمسك باتِّباع الهوى وطول الأمل (اللهم إني أسألك التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار السرور، والاستعداد للموت قبل حلول الفوت).

4- النفس الأمارة بالسوء: للنفس ثلاثة أوصاف كما ورد في القرآن "المطمئنة" و"اللوامة" و"الأمَّارة"، و"المطمئنة" التي هي تغلب القوى العاقلة فيها قوى الشر وهي "الغضب" و"الشهوة" و"الوهم الشيطاني"، وهي بالتالي النفس التي تلتزم بما أمر اللَّه وبما نهى اللَّه عنه وتحدّ من اندفاع قوى الشر وتوقفها عند حدود حلال اللَّه وحرامه؛ و"اللوامة" هي التي يكون هناك تنازع فيها بين قوة الخير وقوة الشر من دون السيطرة الكاملة لقوى الشر، وفي هذه الحالة إذا فعل العبد معصية أو ارتكب ذنباً حصلت في نفسه ندامة ولوم على ما صدر عنه، و"الأمَّارة بالسوء هي التي تكون نفس الإنسان فيها مغلوبة على أمرها ومقهورة لقوة الشر بالكامل بحيث لو ارتكب الإنسان المعاصي والذنوب فإن نفسه لن تدفعه للندم لأن قوة الخير صارت مضمحلة في نفسه ولم يعد لديها القدرة على محاربة قوة الشر المستحكمة والمتسلِّطة على النفس بالكامل، وينتج عن انعدام تأثير قوة الخير وفاعلية قوة الشر أن يندفع الإنسان نحو اختراق الحدود والضوابط الإلهية من دون وجود أي رادع على الإطلاق، وهذه النفس اللوامة هي الأشد خطراً على الإنسان لأنها تنزل به من مستوى الإنسانية الكريمة إلى مستوى البهيمية التي تسيطر عليها غرائزها وشهواتها وملذاتها وتسعى وراء تحصيلها من أي طريق كان حتى أن الحلال لا يعود له معنى عنده، لأن الشهوة هي المبتغى وهي المراد، فيكون الحلال والحرام عنده على حد سواء طالما أنهما يؤديان إلى الوصول للشهوة واللذة، وإذا انحصر الأمر في تحصيل اللذة عن طريق الحرام فلا رادع لديه ولا مانع عنده لأنه لا يوجد من يردع النفس التي تأمر بالسوء والفحشاء عن أفعالها الشنيعة الموجبة لسخط اللَّه وغضبه وعقابه. هذه تقريباً هي أمهات مناشئ الفساد في النفس الإنسانية، وعنها تتفرع كل أنواع الذنوب والمعاصي. من هنا فإن على كل مسلم ملتزم أن ينتبه إلى نفسه، وأن يجعل قوة الخير فيها قادرة دائماً على السيطرة والتحكم بقوى الشر في النفس، لأن الغفلة أو التهاون والتقصير يمكن أن يكون ثمنهما خسران الآخرة أي استحقاق الإنسان لعذاب اللَّه في النار وحرمانه من الجنة حيث النعيم والتمتع بالخيرات والبركات التي أعدها اللَّه لأصحاب النفوس المطمئنة الهادئة التي تخاف اللَّه في كل فعل وفي كل قول وتقف عند حدود مسؤولياتها الشرعية والأخلاقية والإنسانية، وهنيئاً لكل من غلبت قوة الخير قوة الشر في نفسه وقهرتها وغلبتها، لأن الإنسان في هذه الحالة سيكون قادراً على محاربة هوى النفس والميول المنحرفة فيها.

(*) مدير عام مكتب الوكيل الشرعي العام للإمام الخامنئي "دام ظله" في لبنان.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع