مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

جولة في مراحل الفقه

آية الله محمد إبراهيم جناتي

 



يعتبر آية الله محمد إبراهيم جناتي من كبار مدرسي الحوزة العلمية في قم المقدسة، بدأ بتحصيل العلوم الدينية في مدينة شاهرود ثم انتقل إلى النجف حيث درس عند كبار علمائها من أمثال السيد الشاهرودي والسيد الحكيم والسيد بعد الهادي الشيرازي وغيرهم على مدى 25 سنة من إقامته هناك.
كتب هذا البحث لمجلة (كيهان أنديشه) على حلقات باللغة الفارسية وترجمه لنا فضيلة الشيخ أحمد وهبي.


*معنى كلمتي الفقه والفقيه:
الفقه في اللغة بمعنى الفهم، كما جاء في الآية القرآنية:  ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ . وهذه الكلمة في اصطلاح الفقهاء تعني معرفة الأحكام الفرعية الشرعية، التي نحصل عليها عن طريق أدلتها التفصيلية (القرآن، السنة، الإجماع والعقل) سيأتي البحث فيما بعد في مورد بداية ظهور هذا العنوان والاصطلاح.
تطلق كلمة الفقيه اليوم على من لديه قدرة استنباط الأحكام الفرعية الشرعية عن طريق أدلتها التفصيلية.

*تاريخ هاتين الكلمتين:
كلمتا الفقه والفقيه ليستا مستحدثتين، وليس استخدامهما جديداً، بل كانتا رائجتين منذ بداية ظهور الإسلام، بناءً عليه لا أساس لما يظنه بعض المستشرقين من أنّ المسلمين أخذوهما من قوانين الفقه الرومية. لأنّهما وردتا في القرآن الكريم والحديث الشريف. يقول الله تعالى في القرآن:  ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ
ويقول الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين".
فالملاحظ أنّ هاتين الكلمتين استعملتا في أول المتون الإسلامية.

*الفقه الإسلامي لم يتأثر بالفقه الرومي:
يدعي بعض المستشرقين إنّ المسلمين في صدر الإسلام كانوا منهمكين بالفتوحات، والفقه الإسلامي تأثر بقوانين وأحكام الروم، بمعنى أنّه في زمن الصحابة – الذين يروون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم – وفي زمن تابعيهم- الذين يروون عن الصحابه – أُخذت بعض الأحكام الشرعية المستنبطة من قوانين وأحكام بلاد الروم. جاءت هذه الجماعة بدليلين على مدعاها:
الدليل الأول:
كلام لأحد المستشرقين يقول فيه: عندما فتحت بلاد الشام على يد المسلمين، كانت مدارس الفقه الرومي لا تزال قائمة في القيصرة الواقعة على سواحل فلسطين وبيروت وكانت المحاكم القضائية تقضي على أساسه، واستمرت هذه القوانين إلى مدةٍ بعد الفتح. هذا الأمر دليل على أن المسلمين اعتبروا ذلك القانون رسمياً وأقرّوا به.
يتابع دليله فيقول: من الطبيعي أنّ المسلمين الذين لم يتمتعوا بقدر يذكر من المدنية، يجب أن يتبعوا مجتمعاً سبقهم بالثقافة والتمدن، وأن يجعلوا من تصرفاتهم وقوانينهم دستوراً لهم.

الدليل الثاني:
إن مقايسة بعض أبواب الفقه الإسلامي، وبعض قوانين الروم تبين التشابه بينهما. بل يدلّ على أنّ متن بعض الأحكام نقل من قوانين الروم مثل القانون الذي يقول: "على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين".
في هذين الدليلين إشكالات واضحة:
أولاً: لا أحد من المسلمين – حتى نفس المستشرقين – يقول أن المسلمين أعم من الفقهاء وغيرهم أشاروا إلى الفقه والقوانين الرومية بنقدٍ أو تأييد وتصديق أو اقتباس واستناد. بناءً على هذا لم يكن يظهر كلام عن الفقه الرومي بين المسلمين فضلاً عن جعله مورداً للبحث والدراسة وأن ترجم بعض المسلمين فلسفة اليونان إلى العربية، ولكن لم يترجم كتاب واحد بل كلمة واحدة من الفقه الرومي إلى العربية.
بالنظر لهذا الأمر نحصل اليقين أن جميع الأحكام الرومية ألغيت بمجرد فتح تلك البلدان.

ثانياً: كان المستشرق المذكور يدعي أنّ مدارس الفقه الرومي كانت موجودة في بلاد الشام في ذلك الوقت، وأنّ المحاكم والقضاة كانوا يحكمون طبقاً له، ولكن يجب الانتباه إلى أنّه كان يوجد في الشام فقهاء وقضاة وولاة كبار، وفي هذه الحال لو كان هناك تأثير من ناحية القوانين الرومية لكان على هذه المجموعة من الفقهاء والقضاة لا على مجموع الفقه الإسلامي.

ثالثاً: المسلمون حاملو رسالة سماوية عظيمة وقد كانوا يقومون بالفتوحات لتطبيق أحكام دينهم. بناء على هذا كيف يتصور أنّهم يفتتحون أرضاً ثم يخضعون لقوانين قاموا هم أنفسهم للقضاء عليها وسحقها وإقامة حكم الإسلام مكانها؟

رابعاً: ليس بالإمكان أبداً الإتيان بدليل على الادعاء بأنّ المسلمين في عصر الفتوحات يتمتعون بمستوى أقل من التمدن والثقافة نسبة لأهل تلك الأراضي. ولو كان الأمر كذلك لترك المسلمون ثقافتهم ورضخوا لثقافة وآداب تلك الأرض، لأنّ الفكرة العليا هي التي تتمتع بتأثير ونفوذ لا تلك التي تكون ضعيفة ودون مميزات، إضافةً إلى أنّ الإسلام رفض الإكراه في الدين ومنعه.

خامساً: إن جملة "على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين" هي حديث شريف، وجاءت أيضاً في رسالة أرسلها "عمر بن الخطاب" إلى "أبي موسى" في البصرة، بناءً عليه كيف يظن بأنها أُخذت من الأحكام الرومية.
ومما قيل يعلم أنّ دعوى "تأثير الفقه الرومي في الفقه الإسلامي" هي دسيسة من المستشرقين وادعاء لا أساس له، الفقه الإسلامي هو مجموعة أحكام استنبطت من الأدلة الشرعية، وما لم يكن مستنداً إلى دليل فهو ليس من مسائل الفقه الإسلامي.

*بداية ظهور عنوان الفقه:
لم يكن عنوان الفقه مصطلحاً ورائجاً قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة المنورة، بل ظهر بعد الهجرة، ولكن يستفاد من بعض الأحاديث النبوية أن الفقه كان يستعمل قبل ذلك بمعنى مجموعة القوانين الإلهية. ولكن هذا العنوان لم يصطلح عليه عند الإمامية. على كلّ حال، هذا العنوان بمعنى الأحكام الشرعية ظهر بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة أقام في مكة ثلاث عشرة سنة ثم بقي في المدينة عشر سنوات وطوال هذه الثلاث وعشرين سنة كانت تنزل آيات القرآن، إلاّ أن الآيات المكية التي تشمل ثلثي القرآن لم تكن في مجموعها تبين الأحكام، بل لبيان مسائل من قبيل الأصول الاعتقادية، الدعوة إلى الإيمان بالله والنبي والقيامة، الأمر بالصلاة، والدعوة للمحاسن الأخلاقية مثل الصدق والأمانة والامتناع عن القبائح والفحشاء مثل الزنى والقتل وغيره، والنهي عن البخس في المكيال وغير ذلك، بناءً عليه، أنّ الجهة الأصلية للتشريع في مكة كانت متوجهة إلى تثبيت العقائد وإصلاح المفاسد العقائدية ومحاربة الشرك والإلحاد ومحوه لا نحو بيان الأحكام والمسائل الفقهية.

أما الآيات المدنية التي نزلت في المدينة بعد الهجرة، وهي ثلث القرآن تقريباً، هي بيان للأحكام والقوانين الشرعية. كانت الآيات تنزل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلوها للناس. الآيات التي تحمل المسائل المرتبطة بوقائع وحوادث المجتمع، والمزيلة للمشكلات الاجتماعية والفردية والسياسية لدى المسلمين، الآيات المتضمنة لمسائل المعاملات نظير البيع والإجارة والرهن والربا. والمسائل الحقوقية مثل حد الزنى والسرقة والجنايات مثل القتل العمد، ومسائل من قبيل الشهادة في الزنى وغيره، والآيات التي ذكرت فيها الأحكام العبادية مثل الصوم والزكاة والحج والجهاد وشرائطها.

فمختصر الكلام هو أنّ جهة التشريع في المدينة المنورة كانت بيان الأحكام الشرعية الفقهية حتى نال الدين كماله النهائي ووصلت رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم السماوية إلى نهايتها.
إنّ دعوى تأثير الفقه الرومي في الفقه الإسلامي دسيسة من المستشرقين وادعاء لا أساس له من الصحة.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع