مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

جولة في مراحل الفقه: مرحلة التشريع


آية الله محمد إبراهيم جناتي


يعتبر آية الله محمد إبراهيم جناتي من كبار مدرّسي الحوزة العلمية في قم المقدسة، بدأ بتحصيل العلوم الدينية في مدينة شاهرود ثم انتقل إلى النجف حيث درس عند كبار علمائها من أمثال السيد الشاهرودي والسيد الحكيم والسيد عبد الهادي الشيرازي وغيرهم على مدى 25 سنة من إقامته هناك.
كتب هذا البحث لمجلة (كيهان أنديشه) على حلقات باللغة الفارسية وترجمه لنا فضيلة الشيخ أحمد وهبي.


في الحلقة الماضية تحدث عن تكامل علم الفقه وفي هذه الحلقة يصل الكلام إلى مراحل هذا العلم.
الفقه الإسلامي من بداية ظهوره في المدينة المنوّرة كان له تطورات كثيرة وتجاوز مراحل متعددة، هذه المراحل والعهود يمكن بيانها بالترتيب التالي:

* مرحلة التشريع:
هذه المرحلة تبدأ من أول يوم لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سن الأربعين سنة وتستمر حتى يوم وفاته صلى الله عليه وآله وسلم سنة 11 هجري.ق، بناءً عليه تكون مرحلة التشريع قد استمرت مدة ثلاث وعشرين سنة، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقي في مكة مدة 13 سنة تقريباً بعد البعثة، ثم هاجر إلى المدينة، ودخلها يوم الاثنين 11 ربيع الأول بعد ثلاثة أيام. (بداية الهجرة هي مبدأ التاريخ الهجري). وفيما بعد أقام النبي بحدود عشر سنوات ولبى دعوة الحق بتاريخ يوم الاثنين 28 صفر المظفر السنة الحادية عشرة للهجرة وبرحيله انتهت مرحلة التشريع.

* كيفية ظهور الفقه في هذه المرحلة:
الفقه الإسلامي في هذه المرحلة لم يظهر دفعة واحدة، بل بصورة تدريجية، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلّغ بالفقه والأحكام الإلهية للمسلمين تدريجاً. وكل مدة كان يؤمر من ناحية الله تعالى بإبلاغ واحدة من مسائل الفقه والأحكام الإلهية، فيعلم الناس بها، وأتباع حضرته صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً عند الضرورة لتعلم الأحكام الدينية والاجتماعية والأخلاقية وغير ذلك كانوا يراجعون شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون أي واسطة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجيب عن السؤال بآية من القرآن، أو بقوله وفعله، أو بتأييد قول السائل، لا بد من توضيح أن قول وعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأييد الشخص من قبل النبي تسمى "السُنَّة" في اصطلاح الفقهاء، والسُنَّة في اللغة بمعنى الطريق والطريقة.

في هذه المرحلة من مراحل الفقه الإسلامي كانت أيدي المسلمين مطلقة في تعلم المسائل الفقهية كاملاً، لأنهم كانوا يأخذونها بشكل مباشر من لسان رسول الإسلام الكريم، وأحياناً كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحيل المسلمين إلى الإمام علي عليه السلام لأجل حل المسائل الشرعية، وكانوا يحصلون على أجوبتهم بمراجعة الإمام عليه السلام، وفي بعض الأوقات كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث بعض أصحابه إلى بعض مناطق المسلمين، ليبينوا المسائل الفقهية والأحكام الشرعية، كإرسال معاذ إلى اليمن، رشد الفقه لإسلامي في هذه المرحلة لم يزد عن هذا الحد.

* مصدر الفقه والتشريع في هذه المرحلة:
الفقه والتشريع في هذه المرحلة كان ينبع من الوحي فقد والقول المنسوب للشافعية والمالكية وبعض الحنفية، من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه كان يجتهد، وكان يعطي رأيه في بعض المسائل النظرية غير صحيح، لأن هناك دلائل عديدة في القرآن الكريم على خلافه منها قوله عزّ وجلّ:  ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى  إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3/4).
وأيضاً قوله تعالى:  ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ  لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ  فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين﴾َ  (الحاقة: 44/45/46).
وكذلك قوله تعالى في الآية الأولى من سورة المجادلة في مسألة الظهار التي لم يبين حكمها حتى مضى أربعين يوماً: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ .

* مكان وزمان الوحي:
الوحي الإلهي نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكان عبادته الواقع في ضواحي مكة المكرّمة. جبل حراء. وقد بدأ بهذه الآيات: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ،  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم﴾ .
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بسماع هذا النبأ ارتجف واضطرب اضطراباً شديداً، وأسرع إلى زوجته وهو في حالة الاضطراب وقال لها"دثريني" فغطته حتى ابتعد عنه الاضطراب والهلع.
يرى الشيعة أن ابتداء نزول الوحي هو 27 رجب، وأهل العامة يعتقدون أنه في السابع عشر من شهر رمضان.

* كيفية دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة اندفع للدعوة بصورة سرية مدة ثلاث سنوات، وفيما بعد أظهر دعوته بأمر الله تعالى في الآية التالية:
﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾  (الحجر/ 94 ـ 95).
بعد البعثة نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحدود ثلث القرآن في مدة ثلاث عشرة سنة في مكة، في السنة العاشرة للبعثة هاجر إلى الطائف، وفي السنة الحادية عشرة جاء الأمر بالمعراج، وفي السنة الثالثة عشرة هاجر إلى المدينة، وبعد حدود عشر سنوات من الإقامة في المدينة في يوم 28 صفر السنة الحادية عشرة الهجرية لبّى دعوة الحق.

* تدوين الفقه والشريعة:
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر كتبته أن يكتبوا بحضوره ما يوحى إليه من قبل الله تعالى وكانوا يفعلون ذلك.
كل آية من القرآن الكريم كانت تنزل على حضرته في ظرف مناسب، حتى نزل كل الكتاب الإلهي في طول ثلاث وعشرين سنة. وفي ذلك الوقت نصَّب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصيه وخليفته بأمر الله (عزّ وجلّ) في آية التبليغ:  (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين﴾َ  (المائدة/ 67).
وبنزول الآية:  ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ (المائدة/ 3) وصل الدين الإلهي إلى مرحلة كماله، ثم بعد ذلك انتهى نزول الوحي، هذه الآية نزلت قبل ثلاثة أشهر من رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع، ولم ينزل بعدها آية أخرى في مورد الأحكام الإلهية.

* كلمة الفقه والفقيه في مرحلة التشريع:
في هذه المرحلة كانوا يطلقون كلمة الفقه على جميع تقسيمات الأحكام الشرعية، أعم من الأصولية والفرعية والأخلاقية وغيرها، ولكن لم يكونوا يقولون لمن كان لديه علم بالأحكام الشرعية فقيهاً، في هذه الفترة إذا كان شخص حفظ آيات من القرآن وكان يعلم معانيها ويميز ناسخها ومنسوخها محكمها ومتشابهها وخاصها وعامها، كانوا يسمونه قارئاً. وهذه التسمية كانت بسبب أن القراءة كانت تعد امتيازاً مهماً بنظر العوام، لأن الأمية كانت منتشرة. وعندما نما علم الفقه في أبعاده وجوانبه المختلفة واستقامت قواعده الكاملة، عندها وجدت كلمة "فقيه" وسمّوا بعد ذلك "القرّاء" "فقهاء".

* انتشار واتساع الفقه:
بنزول حدود ثلث القرآن في المدينة، استمر انتشار الفقه والأحكام الدينية والأخلاقية وغيرها مدة عشر سنوات في هذه الأرض، في طول هذه المدة كان انلنبي صلى الله عليه وآله وسلم يبين الحلال والحرام للمسلمين، ويرشدهم إلى المعارف الإلهية والأحكام الدينية والآداب والعادات الإسلامية، وكان يستجيب لكل حاجات أمة الإسلام، في هذه المرحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحرك مسألة صغيرة أو كبيرة بدون بيان حكمها، حتى أنه لم يتوان عن بيان حكم "أرش الخدش" أيضاً.

في هذه الفترة كان الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام يكتب كل ما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أعم من تفسير آيات القرآن والأحاديث النبوية، وبتعبير آخر كان شخص النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يملي جميع القوانين والأحكام على علي عليه السلام ويأمر بكتابتها وتسجيلها ويوصيه أن يسلمها للأمة من بعده بناءً على هذا الأمر كتب علي عليه السلام أيضاً بخطه واستودعها عند أهلها، وروت في هذا المجال أخبار وروايات كثيرة.

ويستفاد من هذه الأحاديث والروايات أن ما كان عند علي عليه السلام من بيان الحلال والحرام والقوانين كان من قبل جبرائيل أخذه علي عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك أمر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أمته أن يمسكوا به وأن يتعلموا علومهم من أهل البيت عليهم السلام، وأن يتبعوا سيرتهم وأن يجعلوا من أحاديثهم طريقة حياتهم. لأن ما عندهم أكثر وثاقة واطمئناناً من علوم الآخرين، ولا شك أن اللازم على جميع المسلمين في تعلم الفقه واكتساب الأحكام الدينية والمعارف المذهبية. أن يولّوا وجوههم إلى الأئمة عليهم السلام منبع العلوم الزلال فقط. لكن ما يدعو للأسف أن من بين جميع الفرق الإسلامية، فرقة واحدة فقط جعلت هذا العمل طريقتها، ومالت إلى مذهب أهل البيت عليه السلام وتعلموا الأصول والفروع من الأئمة عليهم السلام، وتركوها بالتواتر ميراثاً للخلف وهكذا بقي هذا الرأسمال الخالد ثابتاً من نسلٍ إلى نسل.

الأصول والفروع التي يعتقد الشيعة الإمامية أنها المستند لفقههم هي ممّا قاله الأئمة عليهم السلام وقد حفظ الشيعة هذا المشعل مشرقاً بالاعتماد فقط على منبع علم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفيّاض، وبحر علومهم المحيط، وقد بنى الشيعة أصول وفروع فقههم على أساس الأحاديث التي سمعوها من الأئمة عليه السلام، وما يؤسف ويحزن أنه عمل مؤخراً عدد من الأشخاص على تضعيف هذه الأحاديث بالاستدلال على أن رواة أحاديث الشيعة ضعاف، مع أن حدود مائة شخص من محدثي ورواة أخبار الشيعة نظير "إبان بن تغلب" وغيره من الموثقين ومورد للاعتماد لدى أهل السُنَّة.

لا بأس من الإشارة هنا إلى عدة مسائل:
أ ـ أن الكتاب الذي جمعه الإمام علي عليه السلام بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمى "الجامعة" وطوله سبعون ذراعاً بدليل رواية أبي عبيدة أنه قال: سأل أبا عبد الله عليه السلام بعض أصحابنا عن الجفر فقال: هو جلد ثور مملوء علماً يقال له "الجامعة"، قال: تلك صحيفة طولها سبعون ذراعاً عرض الأديم مثل فخذ الفالج فيها كل ما يحتاج إليه الناس وليس من قضية إلا وهي فيها حتى أرش الخدش... (أصول الكافي، ج1، ص 241).

ب ـ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أملى هذه العلوم على علي عليه السلام فقط، وفي زمانه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعلمها أحد غير علي عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصاه أن يكون هذا الكتاب من بعده عند الأئمة الأحد عشر، فعمل علي عليه السلام بوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجعله بعده عند الأئمة عليهم السلام، وكان كل منهم يحفظه حتى يسلمه إلى الإمام الآخر.

ج ـ هذا الكتاب كان موجوداً عند الأئمة عليهم السلام، وقد أراه الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام إلى جمع من الأصحاب وجمع من الناس ليطمئنوا من وجوده، أو كانوا يفعلون ذلك ليستطيعوا أن يحتجوا ويستدلوا على ما كانوا يعزونه من آرائهم ونظرياتهم، وكانوا يقسمون أن هذا الكتاب هو من إملاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي عليه السلام.

د ـ هذا الكتاب كان مشهوراً في ذلك الزمان بـ"كتاب علي"، والبخاري في صحيحه روى عنه في بابي "كتابة الحديث" "وأثم من تبرأ من مواليه".

هـ لم يكن هذا الكتاب مشهوراً عند الشيعة فقط، بل كان يتمتع بشهرة خاصة عند العامة في عصر الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام لأن هذين الإمامين كانا يستدلان به في الجواب على استفتاءات الناس، ويبينون في الجواب أنه جاء في كتاب علي، كما في جواب استفتاءات غياث بن إبراهيم، طلحة بن زيد السكوني، سفيان بن عيينة، حكم بن عتيبة ويحيـى بن سعيد، وكذلك في جواب أسئلة كبار الشيعة نظير زرارة، محمد بن مسلم، عبد الله بن سنان، ابن بكير وأبي حمزة وغيرهم.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع