السيد علي حجازي(*)
إن مسألة الاختلاف في الآراء والأفكار فطرية لدى الكائن الإنساني وضرورية في حياته وسلوكه لضرورة الاختلاف من حيث الخلقة والبيئة والأطماع والأهواء والقوة والضعف ولكن الاختلاف الذي تقتضيه الحياة الإنسانية وفق ذلك على نحوين:
* وجهة الاختلاف
النحو الأول منه سلبي لأنه يؤدي إلى التصارع على امتلاك مقدرات الحياة، وهذا الاختلاف على خلاف الفطرة الإنسانية لأنه يؤدي إلى سلب استقرار الحياة الإنسانية وبطلان سعادتها وهلاكها. والنحو الآخر هو الاختلاف الذي يحافظ على الإنسان ويأخذ بيده نحو السعادة وينقله من ظلمة الجهل والجمود إلى نور العلم والازدهار والتطور. ولأجل ذلك كانت حركة الأنبياء لرفع الاختلاف الأول وتهذيب الثاني وإلى ذلك أشار القران الكريم ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾(البقرة/213). وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾(هود/118،119) فهناك اختلاف لا بد من رفعه، وهناك اختلاف ثابت والهدف منه هو انتشار الرحمة بين الناس وتوحيدهم على ذلك. وحركة الاجتهاد الفقهي بما لها من مساس بحياة الإنسان لا تخرج عن هذا القانون الإلهي العام.
* أسباب الاختلاف الفقهي:
الأحكام الشرعية لها ثبوت واقعي في عالم التشريع والنبي والإمام عليه السلام وظيفتهما التشريعية إيصال هذه الأحكام إلى المكلفين. ولهذا كان دور المكلَّفين والعلماء منهم خصوصاً أن يهتموا بما يصدر عن النبي أو الإمام وذلك حفظاً للشريعة وصيانتها وهكذا تكوّن لدينا هذا التراث النصَّي عن المعصومين عليهم السلام. ثم جاء دور الفقهاء الذين أخذوا على عاتقهم إيصال الأحكام إلى المكلَّفين، وبما أن دور الفقهاء يختلف اختلافاً جوهرياً عن دور المعصومين فإن إيصال الأحكام عن طريق الفقهاء ليس من باب الكشف عن الواقع التشريعي الحقيقي، بل بواسطة ما كشف عنه المعصوم المشرِّع. ولهذا أنحصر دور الفقهاء في تحديد الحجِّية التي تعني تنجيز الأحكام ومعذّريتها، ولهذا كان عملهم اجتهاداً بما يعني الاجتهاد من بذل الوسع لاستخراج الحكم الشرعي، ليس على مستوى الواقع الحقيقي بل على مستوى الحجية من التنجيز والتعذير. فلا يدَّعي فقيه في مجموع فتاواه أنها الواقع الحقيقي بل كل ما يدَّعيه الحجية الحقيقية والاعتبارية. والأحكام التي يثبتها الفقيه إما واقعية للعلم بها، أو ظنية معلومة الحجية، وإما وظيفة عملية ظاهرية، وفي الحالات الثلاث يحتاج كل واحد إلى طريق لإثباتها فالعلم له طريقه والحجية لها طرقها والوظيفة العملية كذلك. وهذه الطرق ليست أموراً واقعية بل هي أدلَّة إثباتها وتحقيقها بيد الفقيه، فكل ما ثبت أنه دليل كان المعتمد للحجية ولإثبات الحكم ومن البديهي أن دليلية الدليل خاضعة للقطع بدليليته، وحصول القطع يختلف من شخص لآخر على حسب المقدمات الثابتة لديه لتحصيل العلم، وهذه المقدمات تختلف من شخص لآخر. وصحة الدليل تخضع لحكم العقل الحاكم بحجية العلم، فالاختلاف إذاً لم يأتِ من قبل الشريعة نفسها، بل من الأداة المستخدمة لدى البشر كميزان للحجية وعدمها. إذاً فحركة الاجتهاد تعني: البحث داخل الدائرة الشرعية من نص وإجماع على فتوى وقضايا عقلية توصل إلى الكشف عن الحكم الواقعي على نحو القطع.
* الاختلاف الفقهي عند الشيعة:
إذاً فالفقيه يدور في فلك الأحكام الواصلة إما بنفسها وإما بحجيَّتها وهذه الحركة تجعل الفقه يواكب التطور الإنساني عبر التاريخ على مستويين مستوى الحاجة لأحكام تستوعب كل المستجدات والتطورات والتطور الفقهي نفسه على مستوى الدليل والآلية المستخدمة لفهم الشريعة وإثباتها على مستوى الحجيَّة. وهذا ما أعطى للفقه الشيعي الميزة الخاصة به في مواكبة حركة العصر بحيث بقي الفقيه مع الإنسان. وهذا ما يبرر حالة الاختلاف الفقهي لأن أي علم لا يمكن له أن يتطور نحو الأفضل بدون اختلاف على مستوى المنهج والآلية. ولو بقي الفقه كما كان عليه زمن الشيخ الطوسي لما كان هذا التطور. ورغم الاختلاف الفقهي فالمذهب الشيعي يحتضن كل الآراء، وأتباعه يعيشون ضمن هذه الدائرة رغم اختلاف المسالك الفقهية التي تعطي للمكلف خيارات أوسع ضمن الدائرة الواحدة.
* نماذج من الاختلاف الفقهي على مستوى الدليل:
النص الواحد لدى جميع الفقهاء لا يجعلهم يصلون إلى نفس النتيجة. فهناك حجية الظهور التي يخضع لها النص لفهمه، فالاستظهار الحاصل من متن نص واحدٍ قد يتعدد مع وحدة ألفاظه، وذلك للخلاف الحاصل في موضوع حجية الظهور ضمن قائل بحجية الظهور الشخصي الذاتي، الذي يحصل عند الشخص وفق معطيات خاصة وخلفية خاصة، وهذا قد يتعدد من شخص لآخر وفق الاختلاف في الثقافة والبيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية. وبالتالي سيتعدد الحكم من نص واحد، وهناك من يقول بحجية الظهور الموضوعي للنص الخاضع لقواعد اللغة، وهناك من يقول بحجية الظهور الموضوعي للنص الخاضع لقواعد اللغة العامة التي إلى يومنا هذا لم تتوحد. وبالتالي حتى هذا المسلك قد يؤدي إلى تعدد الفهم على مستوى الظهور الموضوعي لاختلاف الأسس اللغوية المعتمدة. بل حتى لو توحدت مسالك الظهور، يبقى النص الحديثي غير القطعي خاضعاً لميزان الحجية على مستوى السند، فما هو الخبر المعتمد؟ هل الحجية لخبر الثقة أو للخبر الموثوق أو للثقة الموثوق؟ وهل نقول بقطعية الكتب الأربعة كلها أو بعضها كما عند البعض؟ وهكذا على مستوى تحديد الموقف العملي عند الشك والجهل بالحكم الواقعي، والذي لعب دوراً كبيراً في الفقه المعاصر. حيث شكَّلت الأصول العملية الملجأ للفقه أمام كل المستجدات التي لا يجد الفقيه لها نصاً شرعياً، والاختلاف فيها من الأصل الأولي العقلي بين البراءة والاشتغال والاستصحاب. فكم من فرق على المستوى الفقهي بين القائل بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية وبين النافي لذلك.
وهكذا لو عرجنا إلى مبحث التحسين والتقبيح العقليين والمستلزمات العقلية فالعقل الذي له دور كبير في الفقه الشيعي يجري من اختلاف في تحديد صغريات الدليل العقلي أو حتى في كبراه فبعض الإخباريين منعوا من جريان الأحكام العقلية في باب الأحكام الشرعية، وبعض الأصوليين منعوا كبرى الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. أمام هذا الكم الهائل من الاختلاف فلن تكون النتيجة الفقهية إلا تعدد الآراء واختلافها بما يعني الحركة الفقهية. والمجتمع الشيعي بقي على تماسكه رغم تعدد المرجعيات واختلاف آرائها ويبقى الرأي الآخر محترماً ؟
(*) مدير معهد سيد الشهداء عليه السلام