السيد عباس نور الدين
الاستقبال في الصلاة عبارة عن صرف الوجه عن جميع الجهات المتشتتة والتوجه إلى الكعبة التي هي أم القرى ومركز بسط الأرض.. وهو شرط لصحة الصلاة وبدونه تبطل. ولهذا الحكم الظاهري باطن، وللباطن سر بل أسرار. فأصحاب الأسرار الغيبية يستفيدون من هذا الأمر الإلهي بضرورة الاستقبال في الصلاة إنّ الله تعالى يريد منهم أن يصرفوا باطن الروح عن الجهات المتشتتة لكثرات الغيب والشهادة أولاً. وأن يجعلوا جهة السر والروح أحدية التعلق وجميع الكثرات فانية في سر أحدية الجمع ثانياً.
عالم الشهادة هو العالم المشهود للإنسان. وبعض الناس لا يشاهدون إلاّ أدنى العوالم وهو العالم المادي الحسي. فبالنسبة لهم يكون عالم الغيب كل ما وراء الطبيعة. أما البعض الآخر – وهم قليل – فإنّ شهودهم يتعدى هذا العالم المادي إلى العوالم الأخرى، كما حكى القرآن الكريم عن سيدنا إبراهيم عليه السلام ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾ وعن سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (ولقد رآه نزلة أخرى..) وبالنسبة لأمثال هؤلاء يكون العالم المادي غيباً، والعوالم الملكوتية وما فوقها شهادة. كما قال ذلك العارف الكامل: "العالم غائب ما ظهر قط والله ظاهر ما غاب قط". وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "بماذا عرفت ربك؟" قال: "بالله عرفت الأشياء". إلاّ أنّ جميع عوالم الغيب والشهادة هي في منظر العارف "ما سوى الله تعالى". والعارف لا يطلب سوى الحق سبحانه. وهو المعبر عنه بمقام الأحدية الذي تغيب فيه جميع العوالم وتضمحل كلّ الكثرات. فكلّ ما سواه هو الكثرة. وهي بذاتها حجاب الأحدية. لهذا ينبغي أن يصل العارف إلى ذلك المقام النهائي بتجاوز الحجب، والعبور عما سوى ذلك.
وباطن الاستقبال عند العارف هو صرف الوجه الباطني عن جميع الجهات المتشتتة لعوالم الكثرة. يقول الإمام قدس سره:
"وأصحاب الأسرار الغيبية يصرفون باطن الروح عن الجهات المتشتتة لكثرات الغيب والشهادة، ويجعلون جهة السر والروح أحدية التعلق، ويجعلون الكثرات فانية في سر أحدية الجمع" (الآداب المعنوية للصلاة/203).
إنّ الوصول إلى هذا المقام يتمّ بأحد طريقين. الأول: طريق أهل الجذبة والفناء، وهم الأولياء الكمل كالأنبياء والأئمة عليه السلام. والثاني: طريق السالكين من الظاهر إلى الباطن.
وبالنسبة للفئة الأولى من الناس يكون سرهم مستقبلاً أحدية الجمع، وفانياً في هذا المقام الذي تفنى فيه جميع الكثرات. ويتنزل هذا الاستقبال من السر إلى القلب. وعندها يظهر الحق في القلب بظهور الاسم الأعظم الذي هو مقام الجمع الأسمائي وفناء الكثرات الأسمائية. وعندها تكون وجهة القلب إلى حضرة الاسم الأعظم.
ثم تظهر حقيقة الاستقبال هذه من باطن القلب إلى ظاهر المُلك (البدن) وينتقش أفناء الغير في الانصراف عن غرب عالم الملك وشرقه. ويكون التوجه إلى مركز بسط الأرض الذي هو يد الله في الأرض، وهو الكعبة الشريفة أعزها الله.
إنّ أهل الجذبة يكون باطن سرهم مستقبلاً للحق ومتوجهاً إلى الأحدية التامة. ومنه تظهر مراتب الاستقبال في القلب والعقل والخيال والبدن. وهؤلاء لا يحتاجون إلى رياضة ومجاهدة بدينة للوصول إلى هذا المقام. بل تكون جميع حركاتهم وتوجهاتهم تعبيراً أو مظهراً لباطنهم وسرهم.
أمّا الفئة الثانية وهم أهل السلوك من الظاهر إلى الباطن، ومن العلن إلى السر، فعليهم أن يبدأوا بالتوجه أثناء استقبال القبلة في الصلاة إلى هذه الحقيقة، واستحضارها في كلّ صلاتهم، لكي ينالوا ذلك المقام. وتعتبر الصلاة عند هذه الفئة مجاهدة ووسيلة. بينما هي عند الفئة الأولى شكر "أفلاك أكون عبداً شكوراً" يقول الإمام قدس سره:
"وأما بالنسبة للسالك الذي يسير من الظاهر إلى الباطن ويترقى من العلن إلى السر، فلا بدّ له أن يجعل هذا التوجه الصوري إلى مركز البركات الأرضية وترك الجهات المتشتتة المتفرقة التي هي الأصنام الحقيقية، ويتوجه إلى القبلة الحقيقية التي هي أصل أصول بركات السماوات والأرض، ويرفع رسول الغير والغيرية حتّى يصل – شيئاص ما – إلى سر "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض"، ويحصل في قلبه نموذج من تجليات عالم الغيب الأسمائي وبوارقه...".
وحيث أنّ حياة الإنسان ينبغي أن تكون عروجاً مستمراً إلى الله تعالى، لأنّه لم يعطَ فرصة غيرها: "الدنيا ساعة فاجعلها طاعة". وبما أنّ الصلاة هي "معراج المؤمن" كما ورد في الحديث. فحياة الإنسان ينبغي أن تكون كلها صلاة، وأوقاته ينبغي أن تتصل بالصلاة، حتى يكون في عروج دائم.
والصلاة هي العبادة الجامعة التي يستفيد منها السالك كلّ دروس الحياة. ومنها، أنّ الأمر بالتوجه إلى القبلة أثناء الصلاة هو في الحقيقة أمر بالإعراض عن الجهات المتفرقة التي يعبّر عنها الإمام بالأصنام الحقيقية. لأنّ مظاهر الشرك متعدّدة، ومنها الطواغيت الذين يدعون إلى غير سبيل الله، فالمصلي الحقيقي يرفض كلّ أشكال الطواغيت، لأنّه رفض كلّ الجهات المتشتتة.
إنّ هذا الرفض لولاية الطواغيت وهو البراءة، يعقبه ولاية لأولياء الله تعالى. وهذا أول معاني الصلاة الحقيقية. ولهذا قال إمامنا الراحل: "وتنحط الأصنام الصغيرة والصنم الأعظم عن باطن القلب بيد الولاية..."
ففي كل مرتبة من مراتب وجود الإنسان ينبغي أن يحصل الاستقبال. ولكل مرتبة أصنامها وهي الجهات المتشتتة. فلكي يحصل الاستقبال ينبغي الإعراض عن الجهات وهو البراءة، ولا يكون ذلك إلاّ بالولاية بجميع مراتبها. ولهذا قال الإمام الباقر عليه السلام: "بني الإسلام على خمس الصلاة والصوم والحج والزكاة والولاية وما نودي بشيء مثلما نودي بالولاية".
إنّ الولاية هي التي تعطي للصلاة حقيقتها. وإن مراتب الصلاة تساوي مراتب الولاية. وكلما ارتفع المصلي في مراتب الولاية أدرك حقيقة الصلاة وأصبحت صلاته وسيلة للوصول إلى مقام الأحدية الذي هو غاية آمال العارفين.