مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

عاشوراء عاطفة وثورة

بقلم: الشيخ محمد توفيق المقداد



مما لا شكّ فيه أنّ كل من يسمع بعاشوراء لا بدّ أن يتفاعل معها وجدانياً وإنسانياً.
وقد أكّد أئمة أهل البيت عليه السلام بدءاً بالإمام زين العابدين عليه السلام وصولاً إلى الإمام الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف على ضرورة وأهمية حصول ذلك التفاعل الروحي والعاطفي مع ذكرى عاشوراء، وذلك من خلال ما عاشه الأئمة عليه السلام في كيفية التعامل مع قضية عاشوراء وجعلها جزءاً لا يتجزأ من برنامجهم العملي والتبليغي، أو من خلال التشجيع والتأكيد على ضرورة إحياء تلك الذكرى من جانب الأتباع والموالين.

والروايات الواردة بهذا المعنى كثيرة جداً، خصوصاً ما يدعو منها إلى البكاء على تلك المأساة التي لم يشهد التاريخ الإلهي العام مثيلاً لها، وذلك من أجل أن يكون ذلك البكاء وذرف الدموع وسيلة من وسائل التفاعل الإنساني والعاطفي مع ثورة الحسين عليه السلام التي كان المنشأ لقيامها هو المبادئ الإلهية والقيم الإنسانية.

فعن الرضا عليه السلام: (إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه القتال فاستُحِلت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرعَ لرسول الله حرمة من أمرنا. إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء، أورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام).

وعن الرضا عليه السلام أيضا: (من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه، جعل الله عزّ وجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرّت بنا في الجنان عينه...).

ولتأكيد الحث على الحزن والبكاء على الحسين عليه السلام وردت روايات تشير إلى أن اصطناع البكاء أي "التباكي" يورث المؤمن الجنة كما في الرواية عن آل الرسول عليه السلام كما يقول السيد ابن طاووس (من بكى وأبكى فينا مئة فله الجنة، ومن بكى وأبكى خمسين فله الجنة، ومن بكى فأبكى خمسين فله الجنة، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرة فله الجنة، ومن بكى وأبكى واحداً له الجنة، ومن تباكى فله الجنة).

وهنا يرد السؤال الأساس والمهم (لماذا يراد لنا أن نبكي أو نتباكى على الحسين عليه السلام ومصيبته؟ هل لمجرد إظهار الحزن والأسى؟ أو لمواساة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام والزهراء عليه السلام، أو ليكون البكاء تكفيراً عن ذنب عدم نصر الحسين عليه السلام في ذلك الزمن؟ أو أنّ هناك هدفاً آخر لذلك البكاء وإظهار الحزن والتفجع؟

لا شكّ في أنّ بعض ما ذكرناه من أهداف للبكاء هو مطلوب، لكن أهم ما يراد من البكاء هو إيجاد حالة من التفاعل الوجداني والعاطفي والروحي مع ثورة الحسين عليه السلام من خلال المجازر المروعة والجرائم البشعة التي ارتكبها الأمويون ضد سليل النبوة ووارث رسالتها الإلهية، حتّى يكون ذلك التفاعل مدخلاً لإيجاد حالة من الثورة الداخلية ضدّ الظلم وكل من يعمل تحت لوائه، ثمّ لكي تنتقل تلك الثورة الداخلية المشبعة بالعاطفة إلى العقل لتحركه للكشف عن الأسباب والموجبات لقيام تلك الثورة، وللبحث أيضاً عن الأهداف التي قامت من أجلها، لأنّ المسلم مطالب بأن يعيش إسلامه كما أمر الله، فعندما يعترضه مانع من ذلك عليه أن يعمل على إزاحته سلماً أو جهاداً حتّى يتمكن من ممارسة إسلامه بحريته واختياره، وعندما يعيش المسلم قناعات الثورة الحسينية وأنّ شعارها هو (إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..) يدرك أنّ مجتمعاً يتحكم فيه حاكم ظالم لا يطبق شرع الله على نفسه ولا على عباد دولته هو حاكم منحرف لن يتورع عن القتل وسفك الدماء، ولا بدّ بالتالي من وجود مَن يقف في وجهه وقفة حسينية تردعه عن ظلمه وعن انحرافه ولو لم يتحقّق ذلك الهدف مباشرةً كما لو أدّى القيام ذاك إلى قتل ذلك الثائر المنتفض على حاكم الظلم والجور.

من هنا نفهم أنّ البكاء وإن كان مطلوباً بذاته، إلاّ أن المطلوب الأهم منه هو بعث تلك الروح الثورية والجهادية وجعلها أقوى من أي واقع منحرف قد يعيشه المسلمون في أي عصر، ليبقى للحق صوت مرتفع ينادي بإقامته وإرساء دولته في الأرض ولو أدى ذلك إلى بذل المهج والأرواح في سبيل تحقيق ذلك.

ومن هنا يمكننا القول بكل صراحة وجرأة ووضوح إنّ المراد من البكاء ليس الاستغراق في الحركة والإكثار من ذرف الدموع فقط، ثمّ تبقى بعد ذلك كلّ الأمور القائمة على حالها لو كانت مخالفة في الحكم والتشريع وطريقة العيش للإسلام وطريقته، لأنّ مثل هذا البكاء قد يشجع الحاكم الظالم على الترويج له بل قد يتصدّى هو بنفسه لإقامة مجالس العزاء لتجتمع الناس وتبكي وتنتحب لأنّه مدرك أنّ مثل هذا البكاء لن يتطور ليصبح ثورة ضدّ نظامه واستمرارية حكمه وتسلطه على البلاد والعباد.
لهذا نرى تشجيع فقهاء عصر الغيبة جميعاً كيف يؤكدون على إحياء مجالس العزاء والبكاء ولطم الصدور وكلّ تعبير عاطفي وانفعالي لا يتنافى مع قدسية تلك الثورة وعظمة أهدافها ونيل مراميها الإلهية والإنسانية، وفي هذا الإطار أصدر آية الله العظمى الإمام الخامنئي (دام ظله) فتواه بأنّ (لطم الصدور وقراءة مجالس العزاء من أعظم القربات إلى الله تعالى).

وكذلك ما نراه ونشهده من البعض عند إحياء المجالس الحسينية من قبيل ضرب الطبل أو استعمال البوق وبعض الأدوات من هذا القبيل لتصدر أصواتاً حزينة تتناسب مع مقام الذكرى مما لا مانع منه شرعاً عند سماحته أيضاً، وفي ذلك يفتي سماحة القائد (لا إشكال في استعمال البوق والطبل والصنج بالنحو المتعارف في مراسم التعزية).

وأما ما يروج له البعض ويقوم به أيضاً كضرب الرأس بالسيف أو الضرب بالسلاسل التي قد تكون مصحوبة بأجسام حادة تؤدي إلى الإدماء وإيقاع الضرر البدني بمن يمارسونها، فهذه التعابير وأمثالها التي قد يكون لها مبرر في العود السابقة نتيجة الانغلاق الذي كانت تعيش فيه كلّ مجموعة مذهبية أو عقائدية، حيث لا يشعر الآخرون أو يرون ما يحصل من ممارسات في هذا المجال، فإنّنا في هذا العصر الذي صار فيه العالم قرية صغيرة نتيجة الثورة الهائلة في عالم الاتصالات والمواصلات لم يعد من اللائق القيام بمثل هذه التعبيرات الدموية التي تشمئز منها النفوس وقد تؤدي كما هو الحال اليوم إلى وصفنا بالإرهابيين وسفاكي الدماء ومن مواقع مظلوميتنا واضطهادنا واغتصاب حقوقنا.

ولذا نرى سماحة القائد الإمام الخامنئي (دام ظله) يفتي بحرمة مثل هذه المظاهر السلبية التي يقوم بها البعض لأنّه يراها متنافية مع قدسية عاشوراء وأغراضها، ولا تساعد على إيجاد المضمون الثوري عند من يقوم بهذه الخطوة لأنّ هذه التعابير تلعب دوراً سلبياً في تنفيس الحالة الثورية عند هؤلاء حيث يتصورون أنّهم بذلك الضرب الدامي يؤدون حق عاشوراء والثورة الحسينية.
وفتوى القائد في هذا المجال هي (لا يجوز ضرب الرأس بالسيف وكذا الضرب بالسلاسل إذا كان موجباً لوهن المذهب أو كان فيه ضرر بدني معتد به).
أو فتواه الأخرى: (الاستلقاء على الأرض أمام الأضرحة المقدسة وتعفير الوجه ووضع الصدر على الأرض وخدشها إلى أن تسيل الدماء لا وجه له شرعاً بل يحرم فيما لو أدى إلى تضعيف ووهن المذهب).
ونفهم من جو هذه الفتاوى أن المراد هو إحياء عاشوراء بالطريقة التي تكون له إيجابياتها واضحة وظاهرة ولا تتضمن ممارسات ترتد سلباً على محبي الحسين عليه السلام ومريدي انتشار اسمه وثورته وتأثيره بين المسلمين، بل بين أحرار العالم جميعاً.


ولهذا يمكن القول إنّ المراد من إحياء عاشوراء هو إبراز عظمة الإسلام من جهة، وعظمة تضحية الإمام الحسين عليه السلام وسائر أئمة أهل البيت عليه السلام في سبيل الدفاع عن هذا الدين العظيم الذي أنزله الله على قلب رسوله الخاتم الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع