نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

شهداءُ تحنُّ إليهم المساجد

إعداد: إيمان علويّة


"المسجد هو خندق إسلاميّ، والمحراب هو محلّ الحرب، إنّهم يريدون أن يأخذوا ذلك منكم، وليس المعيار أن يأخذوه، بل إنّ ذلك مقدّمة، وإلّا فاذهبوا وصلّوا ما شئتم، إنّهم تضرّروا من المسجد... إذ أصبح المسجد مكاناً لتجمّع الناس، وتنوير الجماهير للانتفاضة ضدّ الظلم. إنّهم يريدون أخذ هذا الخندق منكم". (الإمام الخميني قدس سره)(1).

انطلاقاً من دور هذا الخندق، سوف يطلّ المقال على زوايا المسجد في منعطفات حياة المجاهدين وكلمات الشهداء، لنعرف أين أوصلهم ذاك المحراب.

•وبينهم حجاب
لم تكن عمليّة ارتياد المجاهدين للمسجد، وهم في سنّ صغيرة، بالأمر اليسير مع بداية تشكّل المقاومة الإسلاميّة، من أجل إقامة الصلاة، وإحياء المناسبات الدينيّة، والقيام بالأنشطة الثقافيّة؛ بسبب انتشار بعض الأفكار المانعة آنذاك، منها أنّ الجامع مخصّصٌ لكبار السنّ فقط حفاظاً على طهارته؛ ذلك أنّ الصغار والناشئة لا يعرفون أحكام الطهارة، فضلاً عن تسبّبهم بالضجيج في المسجد.

ولهذا فقد عانى المجاهدون بادئ الأمر، إذ تحمّلوا الطرد المتكرّر من المسجد بسبب أعمارهم غير المتوافقة مع الذهنيّة السائدة حينها، أو بسبب اصطحابهم لمن هم أصغر منهم سنّاً. ولكن إصرارهم على ارتياده، حوّل المسجد من مجرّد مكان لأداء العبادات، إلى مقرّ اتّصالٍ بالله تعالى أوّلاً، ثمّ بالإخوة المؤمنين، وذلك عبر مختلف النشاطات التي كانوا يشتركون في تأديتها؛ لتنمية الثقافة الإسلاميّة الصحيحة فيما بينهم وفي المجتمع بهدف إصلاحه.

•الشهيد عماد والصلاة جوار المسجد
كان الشهيد عماد مغنيّة واحداً من الذين واجهوا تلك الذهنيّة، وذلك عندما هُجّرت عائلته إلى بلدتهم طيردبّا، عام 1975م، فلم يكن مسموحاً لمن هم في مثل عمره الدخول إلى المسجد، وهو الذي اعتاد صلاة المسجد في الضاحية؛ لذلك اتّخذ من المكان المحاذي لخزّان القرية (الحاووز) مكان صلاة له ولرفاقه، فتكرّر المنع، ولكن واجهه بإصرار عنيد أيضاً إلى أن سُمح له ولرفاقه بدخول المسجد، فصار من أبنائه.

لقد وجد الشهيد عماد أنّ طلاء الجدران قد تقشّر كثيراً نتيجة إهماله سنين عديدة، فعمد إلى تسويته وطلائه على حسابه الشخصيّ، من المبلغ الذي كان قد ادّخره أجرةً لعملٍ زراعيّ قام به في تلك الفترة.

•رحاب
كان يحلم دوماً بأن يكون سكنه محاذياً للمسجد؛ ليبقى جاراً له. وحدث أن أبصر ذات يومٍ أثناء فترة اعتقاله حلماً يقول فيه: "رحاب... رحاب"، فاستيقظ وقد ظنّ أنّ تفسير الحلم أنّه سيُرزق بطفلة يسمّيها "رحاب". وبعد تحرّره من المعتقل بفترة، عُرف عن الشهيد فوزي أيّوب علاقته الوطيدة بمسجد القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف، فقد شاءت الظروف أن يسكن في مبنى "الرحاب" المجاور للمسجد. كتب الشهيد محمد علي حسن (أبو الحسن) بعد استشهاد الشهيد فوزي:

"اليوم دخلنا إلى المسجد، كان فارغاً، فارغاً من وجود الحاج فوزي وصوته. هذا المسجد الذي بناه بالصلوات، وبدروسه الجذّابة التي ما كان يفوّتها الشباب والكبار. إذا لم يكن هناك من إمام، كان يتقدّم الناس ويدعوهم للصلاة، ينتظر الناس درسه بعد الصلاة بفارغ الصبر.

كان الحاج يهتمّ بالمسجد دائماً، ويصطحب معه الشباب لمشاركته الأجر في تنظيفه، وبسط السجّاد في الشتاء. أخذ الحاج القرار بترميم المسجد وتجديده، فصار يعمل على تأمين المال اللازم لذلك تارةً من المغتربين والمقتدرين من أهل القرية، وتارةً من ماله الخاصّ..."(2).

•أنوارٌ لأهل السماء
وحين يتحوّل الحبّ عشقاً يأبى المفارقة، ويرجو الوصال في كلّ وقت، يندفع الشهيد مهدي عبّاس ليسير يوميّاً بعد منتصف الليل من بيته في الرويس نحو مسجد القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف، حيث تشغله حرارة الشوق عن صقيع البرد لملاقاة حبيبه ومناجاته. كانوا يتركون له مفتاح المسجد بعد صلاة العشاء في مكانٍ معتاد، فيفتح باب المسجد، ويصلّي صلاة الليل، "ألا وبشّر المشّائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة"، كما في الحديث القدسيّ(3).

•كشهادة الإمام عليّ عليه السلام
وكان الشهيد الشيخ محمّد أحمد رملاوي، الذي استشهد عام 1986م، متأثّراً بشدّة بقصّة استشهاد الإمام عليّ عليه السلام في المحراب، في شهر رمضان المبارك. وقد أكرم الله تعالى الشيخ بالشهادة وهو يصلّي في الجبهة، أثناء مشاركته في الحرب المفروضة على إيران، وذلك فجر العشرين من شهر رمضان 1406هـ، وكانت لحظة الشهادة أثناء سجوده!

•المعتقل مكان للعبادة
جسّد الشهيد محمّد عبّاس فقيه (استشهد عام 1996م) شخصيّة الإنسان الإسلاميّ الرساليّ، إذ جعل من المعتقل مقرّاً للتحرّر من قيود المادّة وأهوائها: "... نقول لكم إنّنا نحن هنا في هذا المعتقل الأنصاريّ، وجميع المؤمنين وبدون استثناء، لا تمرّ علينا مناسبة أو يوم إلّا ويكون مليئاً بالجوّ الإيمانيّ والروحانيّ، من صلاة الجماعة، إلى الدروس التعبّديّة، والفقهيّة، والعلميّة، إلى مجالس العزاء... لقد تحوّل المعتقل إلى مدرسةٍ، ومسجدٍ، ومكان للعبادة".

وللشهيد محمد عبّاس فقيه، خلال فترة سكنه في ألمانيا منذ العام 1989م حتّى 1995م، فضلٌ في تأسيس جامعٍ في مدينة "بوخولت"، عبر تبرّعات جمعها، بهدف مشاركة أكبر عددٍ من المصلّين في الجامع، بعد أن ضاق بهم المصلّى السابق.

•المسجد في فكرهم
لقد أدرك هؤلاء المجاهدون الشهداء أهميّة المساجد في حياتهم، إذ إنّها بيوت الله، فوطّدوا علاقتهم بالله من خلال ارتيادها، حتّى يحقّ إكرامهم من الله، وقد ترجموا هذه الأهميّة بكتاباتهم، ومذكّراتهم، ووصاياهم، وتوصياتهم الدائمة. وفيما يلي، بعض المقتطفات التي تُظهر الارتباط الوثيق بينهم وبين المسجد، ولو اتّسع المقام هنا لوجب علينا ذكر كلّ وصاياهم وكتاباتهم، منها محاضرة للشهيد محمد سمحات حول المسجد:

"بُنيَ المسجد من أجل أهدافٍ كبرى نظر إليها الشارع وأراد تحقيقها في الحياة.إنّها غايات من أجل صالح الإنسان وسعادته، ومن أجل لقاء المؤمنين بعضهم ببعض، ليكون هذا اللقاء بعد الصلاة والعبادة هدفاً من أجل الانطلاق في خطٍّ واحدٍ ونظرةٍ واحدةٍ، ترتفع به الثلّة المؤمنة عن الأنانيّات، والعصبيّات، والأحقاد، والمصالح الشخصيّة، وتعيش في سموٍّ روحيّ، وتطلّعات إلهيّة ربّانيّة، تستمدّ من خلالها العزيمة والقوّة على مصاعب الحياة ومصائبها وآلامها.

إنّ المسجد ملتقى المؤمنين وباحة المصلّين، ومنتجع الذاكرين والمسبّحين، ولكن لا يقتصر هدفه على الأمور العباديّة، بل إنّ الهدف منه أيضاً أن يؤثّر اللقاء في المسجد على المحبّة والتعاون، وأن ينعكس خيراً على المجتمع في علاقاتنا ومعاملاتنا وتوحيد كلمتنا وصفوفنا. ففي فضل المسجد عن أمير المؤمنين عليه السلام: (الجلسة في الجامع خيرٌ لي من الجلسة في الجنّة، فإنّ الجنّة فيها رضى نفسي والجامع فيه رضى ربّي)"(4).

•المسجد في وصاياهم
وكما كان للمسجد أهميّة في حياة المجاهدين الشهداء، فقد جعلوه من جملة الأمور التي ركّزوا عليها إرثاً هامّاً في وصاياهم:
1- "... ابني العزيز، اسعَ لبناء الحكومة الإسلاميّة مع الإخوة المؤمنين، شكِّل معهم روابط ولجاناً ثقافيّة وإعلاميّة... ابتعد عن أماكن السوء، وصحبة رفاق السوء، وصلِّ دائماً في المسجد، وحافظ على صلاة الجماعة حتّى بغياب إمام المسجد" (الشهيد علي حسين مرتضى).

2- "... وأوصيكم بأن لا تهجروا المساجد التي نصارع من أجلها، فصراعنا مع العدوّ من أجل أن يبقى هذا الدين، وتبقى المساجد..." (الشهيد السيّد علي عبّاس الموسوي).

3- "... مساجدهم حصونكم فتحصّنوا بها؛ لأنّ المسجد هو النبع الأساس للمجاهدين المؤمنين" (الشهيد رامح حسين مهدي).

4- "... إلى الإخوة المجاهدين، لا تتركوا المساجد وصلاة الجماعة، فإنّ يد الله مع الجماعة، لا تتركوا الغبار يملأ كتبنا خصوصاً كتاب الله، فإنّه ذكرٌ لنا في السماء، نورٌ لنا في الأرض" (الشهيد فادي قاسم عزّ الدين).

5- "... حضرة الإخوة أوصيكم بتقوى الله والبقاء على خطّ المقاومة الإسلاميّة، ولا تنسوا المسجد، فدائماً اذكروه، فهو تجمّعكم، وقوّتكم، ومتراسكم، فاملؤوا متاريسكم" (الشهيد سعيد يوسف أيوب).

•الهدف واحد
تختلف العبارات بين الشهداء، لكنّ البوصلة نحو الهدف واحدة، فقد كانت حياتهم كلّها مسجداً اعتكفوا فيه إلى الله عن ملذّات الدنيا، فجعلوا من نفوسهم مسجداً يحرم دخول الشياطين إليه، ففازوا بالجهادين الأكبر والأصغر. لقد عرفوا كيفيّة الارتباط الوثيق بالله، من خلال ارتياد بيته، ومن خلال الجهاد الذي جعله الله لخاصّة أوليائه، فأحيوا الثورة من خلال المسجد كما قال الإمام الخمينيّ قدس سره:
"أحيوا الثورة من خلال المساجد التي تُعتبر حصون الإسلام المنيعة"(5).


1.منهجيّة الثورة الإسلامية، إعداد نشر تراث الإمام الخميني قدس سره، ص479.
2.من صفحة الشهيد أبو الحسن الشخصيّة، قبل شهادته.
3.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج1، ص381.
4.من محاضرة للشهيد محمد حسن سمحات، الذي استشهد في حرب الوعد الصادق 2006م.
5.الكلمات القصار، للإمام الخميني قدس سره، ص65.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع