صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

صفات عباد الرحمن: لم يسرفوا ولم يقتروا

آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي



﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (الفرقان: 67). تحدثنا في المقالات المتقدِّمة حول بعض صفات عباد الرحمن إلى أن وصلنا إلى الآية الشريفة المتقدمة الذكر والتي تبيّن بعض صفات عباد الرحمن.

* الإنفاق المتوازن
من جملة أوصاف عباد الرحمن عدم الإسراف وعدم البخل في مقام الإنفاق. فهم أشخاص يراعون الحد الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، والقوام العدل والوسط. وفي الآية الشريفة قولان، يعتقد بعض الناس أن المقصود من "الإنفاق" هو الإنفاق المصطلح الموجود في أذهاننا. فيكون الإنفاق واجباً في بعض الحالات كإعطاء المال للآخرين والزكاة، ومستحباً في حالات أخرى من حيث البذل والعطاء. وعلى هذا الأساس يصبح معنى الآية الشريفة التأكيد على الاعتدال في مقام الإنفاق. وهناك آية أخرى شبيهة بالآية المتقدمة ولعلها أوضح في هذا الخصوص وهي قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ( الإسراء: 29) فقالوا في معناها إن الله تعالى يأمر رسوله الكريم صلى الله عليه وآله بعدم إنفاق كل ما في يده بحيث لا يبقى أي شيء له أو لا يبقى معه شيء يمكن إعطاؤه لمحتاج قد يطلبه. وقال آخرون في تفسيرها إنها عبارة عن إرشاد أخلاقي وعقلي حيث يطلب الله تعالى من الرسول صلى الله عليه وآله رعاية الاعتدال في مقام البذل وهذا يعني الابتعاد عن الإسراف والبخل. وإذا أردنا الحديث بلغة العصر عن هذه المسألة فهي ما يعبر عنه بعنوان "الاقتصاد" أي الاعتدال ﴿فَمِنْهُم مُّقْتَصِد (لقمان: 32). وقد وصف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام المتقين فقال: "ملبسهم الاقتصاد" (1).

فالاقتصاد هو الاعتدال وهو مطلوب حتى في العبادات. وهو بهذا المعنى أمر عقلاني يدعو الإنسان إلى التدبير في عمله. بناءً على ما تقدم فإن المقصود من قوله تعالى: ﴿إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا عدم الإسراف والتبذير في مقام الصّرف، ﴿وَلَمْ يَقْتُرُوا أي عدم الإمساك بحيث يضيّقون نِعم الله تعالى حتى على أنفسهم؛ إذ ينقل بعض المؤلفين قصصاً غريبة عن بعض البخلاء الذين قد يمتلك بعضهم ثروات طائلة، ولكن لا ينفقون منها حتى على أنفسهم، فيعيشون حياة الفقراء. وحياتهم هذه ليست من باب الزهد، بل لأنهم يرغبون في الاحتفاظ بأموالهم فيما بعض الأغنياء البخلاء قد يعيشون في المجتمع حياة مليئة بالذل والمهانة.

* حدود أمر ونهي القرآن الكريم
المسألة الأخرى التي ينبغي التدقيق فيها هي أن الإسراف الذي تذكره الآية الشريفة: ﴿إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا حرام. وقد جاء النهي عن الإسراف الحرام كي لا يقع المنفقون فيه. إذا كان الإسراف حراماً الإسراف المعروف بالحرمة فهل المقصود من الإسراف هذا المعنى أم أن المقصود الإفراط حتى ولو كان العمل جيداً؛ كأن يقدم الإنسان كل ما لديه من أموال؟ أرادوا بذلك القول إن إفراط النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في البذل والعطاء نوع من الإسراف، وعلى هذا الأساس المقصود اللغوي من الإسراف، الإفراط وليس الإسراف الحرام الممنوع شرعاً.

ولكن هل يشتمل على الإسراف الحرام أيضاً أم لا، بل المقصود الإفراط والتفريط في المباحات فقط؟ الظاهر من الآيات القرآنية عند توضيح القيم سواء الإيجابية وغير الإيجابية، أنها بيانات عامة ذات مراتب، مثال ذلك عندما يتحدث القرآن الكريم حول الصلاة: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ( طه: 14)، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَر (العنكبوت: 45) فهل يشتمل حديثه عن الصلاة على الصلوات الواجبة أيضاً، أم المقصود الصلوات المستحبة فقط؟ لا شك في لزوم الاتيان بالواجبات وأما البيان القرآني لذلك ففيه من جملتها أنها ترغيب بأصل العمل. وللترغيب مراتب متعددة. والوجوب واحد منها. وللوجوب مراتب أيضاً تتراوح بين الشدة والضعف. وكما أن هناك واجبات هناك ممنوعات تبدأ من المكروه إلى الذنب الصغير ثم الكبير ثم إلى الكبائر الموبقات. وجميعها من المنهيات، لذا فإن هذا الوجه يدل على التدبير في الحياة ومعرفة المصلحة وليس على الوجوب والحرام. من الوجوه الأخرى أن نقول إنها تشتمل على جميع هذه الأمور، فعندما يتم التشجيع على مفهوم ما، فالمفهوم على مراتب ومصاديق متعددة. أما أي منها واجب أو مستحب أو حرام أو مكروه فهذا ما يجب فهمه من خلال دليل خارجي، وإلا فإن العبارات تشجع على أعمال الخير ولا تختص بالواجب أو المستحب، بل تشتمل عليهما ويبقى أن تحديد الواجب والحرام منها هو في عهدة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام.

* الاعتدال في جميع شؤون الحياة
بناءً على ما تقدم فعندما يقول: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا فالمقصود النهي عن الإسراف المتعارف. وتشير القرائن إلى أن المقصود من ﴿لَمْ يُسْرِفُوا ليس فقط الإسراف الحرام. وبعبارة أخرى يراد منها الإفراط العرفي أيضاً الذي يمتلك موارد متعددة من جملتها الإفراط الحرام والمكروه وغير الحرام. ولو عدنا إلى الأعمال فهي تحتمل أحد وجهين أحدهما الإفراط والآخر التقصير ومن هنا يأتي الحديث عن "الاعتدال" الذي قبلته مذاهب فلسفة الأخلاق وعلماء الأخلاق المسلمون ومن جملتهم الشيعة، فعندما نقول إن الصفة الفلانية حسنة، فهذا يعني أن جانبي الإفراط والتفريط فيها قبيح. الشجاعة حسنة، ولكن القبيح هو الإفراط والتفريط أي الجبن والتهور. والسخاء حسن إلا أن الإسراف والبخل قبيحان. وقد اتسعت هذه القاعدة بحيث نجد لها حضوراً حتى في الروايات. ومن جملة ما يؤيد ذلك ما جاء: "خير الأمور أوسطها" (2).

* ضرورة التوجه للوظائف المتزاحمة
يدخل الشيطان لخداع الإنسان عن طريقي الإفراط والتفريط. فعندما لا يتمكن من إقناعه بترك المعصية والعبادة، فيتدخل لتشجيع الإنسان على العمل الزائد، فيكون الإفراط في العمل مطلوباً له. طبعاً هناك من يمتلك حسن نية ويرغب بالعبادة، فيمضي أغلب أوقاته في الصلاة مثلاً، فيصبح هذا النهج مشرباً خاصاً يريد أصحابه الإشارة إلى أن مقدار عبادتهم يتلاءم مع الكمالات الروحية التي يتمتعون بها. ومن هنا نبدأ بملاحظة أن الكثير من الواجبات يتم نسيانها، بينما العابد مسرور لكثرة صلاته. والحقيقة أن تحصيل العلم واجب، وتحصيل الرزق واجب، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومواجهة الظلم والعديد من الواجبات الاجتماعية الأخرى. وهكذا يتدخل الشيطان في الجانب التفريطي الآخر. من هنا يجب أن نكون يقظين، فنراعي الضوابط حتى في الأعمال المطلوبة. وينبغي أن نعلم أن العمل الحسن ليس كما يتصور بعض الناس لا أثر له ولا ضوابط. والأعمال الحسنة كثيرة وقد يحصل التزاحم فيما بينها في مقام العمل. فقد تؤدي الأعمال المستحبة إلى ترك الواجب. فكيف يكون العمل المستحب في هذه الحالة مُقرِّباً؟  وإذا أردنا الوصول إلى أصل كلي من خلال الآيات القرآنية الشريفة وبالأخص قوله تعالى: ﴿وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (الفرقان: 67)، أمكننا القول إن الحد الوسط في كل شيء عبارة عن قوامه وهو الأمر المطلوب. والقوام هو الوسط والعدل. فعند الحديث عن الوسط يكون المقصود القوام وهو شيء غير مادي. ولا بدّ من التأكيد على أن المقصود من الاعتدال أو الوسطية هنا هو القيام بالوظائف بما لا يؤدي إلى إيجاد ضرر على مستوى الوظائف الأخرى، بل علينا الالتفات إلى أن اعتدال الشيء قد يكون ببلوغه مقام الوجوب وقد يكون ببلوغه مقام الاستحباب وما شابه ذلك...


(1) نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام ج 2، خطبة رقم 193، ص 161.
(2) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 48، ص 154.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع