صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

زادك إلى الجنّة

الشيخ محمود كرنيب

 



أَوْلى الإسلام خدمة الناس وقضاء حوائجهم اهتماماً شديداً؛ حتّى عدّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم "أنفع الناس للناس" هو الأحبّ إلى الله(1). تؤكّد هذه الرواية على مبدأ الشراكة الشعوريّة المتمثّل بمبدأ التراحم والتكامل والإحسان والإيثار، بمعنى أن يعيش الإنسان في أمّته بكلّ وجوده ويسخّر طاقاته وإمكاناته لرقيّها ولسدّ النواقص والنهوض بالمسؤوليّات الاجتماعيّة. كما قد حذّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من التقصير في ذلك، حيث جاء عنه: "مَن أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"(2).

* شرف الخدمة
1- في القرآن الكريم
لقد أكّد الله تعالى على أهمّيّة الخدمة في كتابه الكريم؛ إذ ينقل عن النبيّ عيسى عليه السلام أنّ أوّل ما نطق به قوله: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ (مريم: 30-31)، فقد جاء أنّ معنى قوله: ﴿مُبَارَكًا﴾؛ أي نفّاعاً للناس. وكذلك أورد تعالى قصّة نبيّه موسى عليه السلام، في ما يتعلّق بخدمته ابنتَي النبيّ شعيب عليه السلام بتولّيه سقاية الغنم لهما؛ إذ كان ذلك سبباً في توفيقه ليصبح ضيفاً، بل وشريكاً للنبيّ شعيب عليه السلام، ومن ثمّ ليقترن بإحدى ابنتَيه.

2- عند أهل البيت عليهم السلام
لقد بلغ أهل بيت العصمة عليهم السلام حدّاً في الدلالة على شدّة مطلوبيّة خدمة الناس وتقدّمها على العبادة، كما جاء عن ميمون بن مهران: "كنت جالساً عند الحسن بن عليّ عليهما السلام فأتاه رجل فقال له: يا بن رسول الله، إنّ فلاناً له عليَّ مال ويريد أن يحبسني، فقال عليه السلام: "والله ما عندي مال فأقضي عنك"، قال: فكلّمه، قال: فلبس عليه السلام نعله، فقلت له: يا بن رسول الله أنسيت اعتكافك؟ فقال له: "لم أنسَ، ولكنّي سمعت أبي عليه السلام يحدّث عن جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: من سعى في حاجة أخيه المسلم، فكأنّما عبد الله عزّ وجلّ تسعة آلاف سنة صائماً نهاره، قائماً ليله"(3).

ولقد أضاف حمل الأوعية التي كان يضع فيها الإمام السجّاد عليه السلام ما يوزّعه من طعام على فقراء المدينة أثراً إلى آثار الأسر والسبي، حمله ذلك الجسد النورانيّ معه إلى قبره.

* خدمة الناس والتكامل: جوهر الدين خدمة الخلق
الغاية من خلق الإنسان وجعله خليفة الله في أرضه إنّما هي أن يترقّى الإنسان فرداً وجماعة بحيث يصبح مفخرة خلق الله ومسجود ملائكته عن جدارة يثبتها سيره وعلمه وعمله وعبادته. يقول الله تعالى للملائكة في محفل الربوبيّة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30).

ولقد عبّر الملائكة عن الخشية من الإفساد وسفك الدماء، وفي ذلك إشارة إلى إمكان فشل الإنسان وانحرافه في ما يتعلّق بعلاقات البشر فيما بينهم المؤدّية إلى الفساد وسفك الدماء، بمعنى أنّ سقوط الإنسان في البُعد الاجتماعي هو الخطر الأكبر المانع من بلوغ الإنسان المقامات المأمولة منه من حيث تكامله ورقيّه الروحيّ والعلميّ والعمليّ، بل من جملة المطلوب منه كونه خليفة هو تكامل الجماعة الإنسانيّة من حيث اجتماعها على أفضل أنواع الاجتماع وأكمله. فميدان العلاقات الاجتماعيّة هو أهمّ ميادين الفساد والإفساد، وفي المقابل هو أهمّ ميادين العلاج والإصلاح، حيث يتضمّن هذا الميدان عوائق على الإنسان مقاومتها، ما يجعله ميداناً لتربية الكمالات، ووسيلة لإثبات الشجاعة والسخاء والإيثار، من خلال مقاومة الجبن والبخل والاستئثار؛ وهذا ما جاء في القرآن الكريم بصورة مدح المُؤثِرين: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (الحشر: 9)، ويعضده تقديم المولى نموذج المُؤثِر في سورة ﴿هَلْ أَتَى﴾ وهم أهل بيت النبوّة عليهم السلام.

فخدمة الناس هي ميدان تحطيم لأصنام الأنا، والاستئثار، والشحّ، وطريق للسير إلى مدارج الكمال، فبخدمة الناس يُكسر صنم الأنانيّة.

* حقيقة خدمة الناس
لكي نصوّب فهمنا ونظرتنا إلى خدمة الناس، علينا التأمّل بالآتي:
1- الخدمة عبادة: خدمة الناس من أرقى العبادات وأفضلها أجراً وأكثرها بركة، فقد روي عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "من قضى لأخيه المؤمن حاجة كان كمن عبد الله دهره"(4).

2- خدمة الناس رحمة: عن الإمام الصادق عليه السلام: "أيّما مؤمن أتاه أخوه في حاجة، فإنّما ذلك رحمة ساقها الله إليه وسبّبها له، فإن قضى حاجته كان قد قبل الرحمة لقبولها، وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها، فإنّما ردّ عن نفسه الرحمة التي ساقها الله إليه وسبّبها له، وذخرت الرحمة إلى يوم القيامة"(5).

3- خادم الناس خادم الله: عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من قضى حاجة لأخيه المؤمن فكأنّما خدم الله عمره"(6).

4- خدمة الناس نعمة: عن الإمام الحسين عليه السلام: "إنّ حوائج الناس إليكم من نِعَم الله عليكم، فلا تملّوا النعم فتحوزوا نقماً"(7).

* آداب وأخلاقيّات خدمة الناس
لقد جاء في النصوص مجموعة من آداب خدمة الناس، منها:
1- الخدمة لمنفعة المخدوم: خدمة الإنسان يفترض أنّها بما يحتاج إليه؛ من إطعامه مع حاجته إلى الطعام أو كسوته، أو نصحه، أو تنفيس كربته، وهو المعبّر عنه بإدخال السرور على قلبه، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "مِن أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ إدخال السرور على أخي المؤمن: إشباع جوعته أو تنفيس كربته أو قضاء حاجته"(8).

2- عدم المنّ والأذى: قال تعالى: ﴿لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى﴾ (البقرة: 234). فلئن كانت الخدمة هديّة، فإنّ أسلوب إيصالها هو الوعاء الذي يحملها. فعلينا أن نحافظ على كرامة الإنسان واحترامه ورعاية مشاعره؛ ولذا قال تعالى: ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى﴾ (البقرة: 263).

3- الإسراع في إيصال الخدمة: عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ الرجل ليسألني الحاجة فأبادر بقضائها مخافة أن يستغني عنها فلا يجد لها موقعاً إذا جاءته"(9).

4- المبادرة شخصيّاً إلى الخدمة: عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "تنافسوا في المعروف لإخوانكم، وكونوا من أهله، فإنّ للجنّة باباً يقال له المعروف، لا يدخله إلّا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا، فإنّ العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن يوكل الله عزّ وجلّ به ملكين، واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته، ثمّ قال: والله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسرّ بقضاء حاجة المؤمن إذا وصلت إليه من صاحب الحاجة"(10).

* مَن الخادم ومَن المخدوم؟
يقول الإمام الخميني قدس سره لولده: "ولدي، ما دمنا عاجزين عن شكره، وشكر نعمائه التي لا نهاية لها، فما أفضل لنا من أن لا نغفل عن خدمة عباده، فخدمتهم خدمة للحقّ تعالى، فالجميع منه"، ويكمل: "علينا أن لا نرى أنفسنا أبداً دائنين لخلق الله عندما نخدمهم، بل هم الذين يمنّون علينا حقّاً لكونهم وسيلة لخدمة الله جلّ وعلا"، ولعلّ ذلك مستفادٌ ممّا روي من أنّ الإمام السجّاد عليه السلام كان يقول لمن يسأله الحاجة: "أهلاً بمن يحمل زادي إلى الجنّة".

ومن أدب الإمام الخميني قدس سره في خدمة الناس أنّه كان في زيارة مع مجموعة من المؤمنين فسبقهم إلى المنزل، وأعدّ لهم الشاي، وقدّمه لهم عند عودتهم من الزيارة، فقال له أحدهم: تركت زيارة الإمام الرضا عليه السلام وجئت إلى هنا لتجهّز الشاي؟! فأجابه قدس سره: من يقول إنّ البقاء في الزيارة أفضل من خدمة المؤمنين؟!

ونختم بالقول: إنّ خدمة الخلق خدمة للحقّ، ومن يوفّقه الله لذلك فقد اجتباه الله واصطفاه ليدخله في سلك خدمته، وإنّها لكرامة أين منها كلّ كرامة؟
وخدمة الناس ميدان ومقام: ميدان لاختبار وتربية إنسانيّة الإنسان، ومقام يتشرّف من خلاله الإنسان بخدمة خالقه تعالى.


1- مستدرك الوسائل، النوري، ج 12، ص 409.
2- الكافي، الكليني، ج 2، ص 163.
3- من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج2، ص190.
4- الأمالي، الصدوق، ص582.
5- ثواب الأعمال، الصدوق، ص248.
6- المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني، ج3 ص404.
7- نزهة الناظر، الحلواني، ص81، ح6.
8- بحار الأنوار، المجلسي، ج74، ص297.
9- عيون أخبار الرضا عليه السلام، الصدوق، ج2، ص192.
10- بحار الأنوار، (م. س)، ج71، ص328.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع