نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

لا أرى الهدهد بينكم!

نسرين إدريس قازان



[تفاصيل هذه القصة واقعية حدثت ما بين ربيع العام 2007 وحزيران العام 2008] كان تمنياً ذات يوم ربيعي دافئ، تحوّل إلى غصّة بعد أن تسلل إليه بردُ شباط الحزين، وعندما أزهرَ برعم الأمل على غصنِ القلب، انهمر الدمعُ غزيراً، فمات حسرةً.

في ذلك اليوم، حاولت خيوط الشمس التسلل من بين أوراق الأشجار الوارفة لتُصلّي فوق التراب حيث يمشون، فعلقت بعض حبيبات النور على أطراف الأوراقِ، لتبدو كهالة قدسية تواكب العابرين بين الأشجار المشابهةِ لهم بجذوعها الضاربة في الأرض، وشموخها المعانق للسماء. زقزقة العصافير تضفي على الهدوء المُصاحب لهمسهم لحناً من الأنسِ، وبيده قصفة من غصنِ شجرة يضبطُ بها إيقاع إيماءاته المواكِبَة لكلماته الراسمة خطَّ الغدِ الآتي تحت جنحي أفقِ الذين لا تتساوى أيامهم. هناك كان الحاج عماد مغنية يمشي بمحاذاة قلبه: فلسطين. يرمي أرضها ببصره، يحركُ أصابعه صوبها كأنه يشعر بترابها... كان يمشي هناك، قاب قوسينِ من حلمٍ ينازع كوابيس الظلمة المخيمة على وضح النهار. 

هنا فلسطين، وعلى مرمى حجرٍ من سياجها الشائك، يمشي الرجلُ الذي يضخُّ في يباسها ماء الحياةِ الأحمر، ومعه رجالٌ يخيطون الجرحَ بنسيج أجسادهم، ويرمون شِباكهم في بحر العتمة، ليخرجَ الضوء من بطنِ ذلك الحوت الذي يلتهمُ ما حوله ولا يشبع.. رائحة الطَيُّون تدغدغُ روحه، فيقطف ضغثاً منه يشمه ليتنشق الحياة.. يبحثُ بعينيه بين الصخور عن شتلة صَعْتَرٍ برِّي يُخفف بحدّة طعمها مرارة العيش العالقة في حلقه.. يرفعُ يده ليبعد بلطف بعض الأفنان الطرية من الأشجار كأنه يسرّح شعر طفل صغير.. 

كان دائماً يتحينُ فرصة الذهاب إلى المحاور المتقدمة.. يستأنسُ بالطبيعة الغناء، ويستلهمُ هدوء روحه الصاخب من ذاك الهدوء الغافي بين الفيء والشمس، فيبذر ما في نفسه في التراب، ويسقي جفاف عمره المتنقلِ بين الجدران، بتلك اللوحات الرائعة الرقراقة من الشجر والصخر والتراب والسماء الشديدة الزرقة.. تفقَّد الحاج عماد أحوال المجاهدين، والشمسُ المتوارية خلف خصلات الشجر أذّنت لصلاة الظهر، فافترش المجاهدون التراب خلف قائدهم ليصلي بهم الظهرين جماعةً وقد وجّه وجهه شطر المسجد الحرام.. "الله أكبر".. كبّرت فلسطين معه، وسجدت السماءُ على التراب الملامس لجباههم حيثُ خيل الله تعدو، والهواء صار أطياراً تشدو بدعائهم؛ أوَليست هناك أرضُ العابرين إلى الله؟! 

كان تمايل الطبيعة يكسرُ جمود حديث الحاج عماد عن الشأن العسكري والأمني وفي غمرة استرساله بالكلمات، وإذ بهدهدٍ يشقُّ عباب السماء ويختفي بين الشجر، آخذاً معه ناظري الحاج الذي ما إن كحّل عينيه قليلاً برؤية ذلك الجمال، حتى التفت إلى صاحبه قائلاً: " لَكَم أتمنى أن تصطادوا هدهداً حياً"، موضحاً لصاحبه أنه يودّ إهداءه لمجاهدين في أحد مراكز المقاومة الإسلامية. ولكن! لماذا يريدُ هدهداً؟! وأيّ نبأ عظيم ينتظره؟! وهو كرمى لعينيه الكل يتسابق لتلبيته قبل أن يرتد إليه طرفه، ليس لأنه قائداً فحسب، بل لأنه كان من ندرة الرجال! وجابت العيون غابة الانتظار.. وُضِعتْ مصائدُ وشباك لطيرٍ أرادهُ "العماد" نبأ لرجالٍ يحرسون البلاد. طال الانتظار، ولم يعلقْ في الشباكِ غير لهيب الصيف، وحزن الخريف، ودموع الشتاء. وأرعد شباط... أبرقَ بخبرٍ صدع القلوب... أمطرت العيون دموعاً مالحة فوق التراب هناك حيث مشى بمحاذاة قلبه الذي تركه رصاصةً في بيت نار بندقية الجهاد.. وإن مرّت الأيام، فإن دموع الحزن عليه ستظلُّ عالقةً عند أطراف الأفئدة؛ فمن قال تعاقب الأيام يخفف من وطأة الحزن؟ ومن قال إن النسيان يطوي صفحات الأسى؟ لا، بل كلما مضى يوم، اتسع الجرحُ وأوغل عميقاً، فرحيلهُ كالشجر الذي يعشقهُ، له حزن راسخ في التراب، لا تملّ جذوعه من الغور في الأعماق. وظلّت المصائدُ تنتظرُ بشرىً تغلي فيها الحسرة، والصاحبُ المؤتمن على هدهدٍ، استطاع مع الأيام صبراً، وكلما سأل العيون، أُجيب بأن الشِباك فارغة، لكنها لم تتعب من الانتظار. وهناك.. بمحاذاة "فلسطين" قلب الحاج عماد.

كان لهيبُ حزيران ينشرُ قيظه على بساط الجنوب حينما وقع هدهد في إحدى المصائد.. رنّ الهاتفُ في دجنة الليل بخبرٍ هبّ كريح فوق بحرٍ من ذكريات ماجت أنواؤه في وجدان الصاحب المؤتمن، فتوجه ليلاً إلى حيث الهدهد، ليجده في قفصٍ خشبي ينظر مذهولاً إلى رجالٍ حملوا من القوة والبأس أسراراً، يجلسون حوله بانكسار كلٌّ يغطي وجهه باكياً، وكلٌّ يبوح بما في نفسه من شجون. حملَ الهدهد وأخذه إلى حيث أحبّ "العماد".. دخل عليهم وإذ بالعزاء قد نصبتْ خيامه في القلوب..

وصلت الهدية وإن متأخرة! فبكت النسور أمام هدهد صار وجهة المشتاقين.  ثلاثةُ أيام فقط، كانت كفيلة بذلك الهدهد ليعبر أودية العشق السبعةَ، فما رآه من أحوالهم عجباً! ماذا علّمهم الرجل الذي يبكون؟ ماذا أورثهم؟ من ذاك الذي يعيشُ فيهم أكثر مما يعيشون؟ إنهم قوم يحكمهم عشق واحد لإله أحد فلا بأس عليهم، فالحزن ترياق العاشقين المشتاقين، يدفعهم للوصول على عجل. أدرك الهدهد أنه لو بقي هناك لن يقدرَ على حمل تلك الأنباء لهدهدٍ من نوعٍ آخر.. هدهد حينما افتقد ذات ليلةٍ كان قد وصل إلى الجنة. تنفس الصبحُ على وجه الهدهد الذي طار من القفصِ تاركاً جسدهُ على أرضه من دون حراك.. غادر إلى جنة الرجل قائد الانتصارات العظيمة، لينبئه عن حال من ترك خلفه.. منهم من قضى نحبه.. ومن ينتظر... والنبأ عظيم.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع