أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

يا غفلتنا عمَّا يُراد بنا!

الشيخ إسماعيل حريري*



قال الله تعالى في كتابه العزيز ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (المنافقون: 9).. وردت الغفلة في كثير من الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة، وهي واردة في مقام ذمّ من ابتُلي بها، كما سنرى عند استعراض جملة منها. وغفلة الإنسان عمّا هو صائر إليه أمرٌ واقع في كل زمان، والغافلون كُثر، إلاّ أنّ هناك مسبّبات للغفلة، لو التفت إليها الإنسان وتحرّز عنها كان آمناً منها وبعيداً عنها. وما سنذكره في هذه المقالة يتركّز على هذه الأسباب لكي نتحرّز عنها فلا نقع في فخّها.

* بيان معنى الغفلة:
في اللغة هي "ترك الشيء والسهو عنه" كما في لسان العرب(1). وفي مجمع البحرين: "غفلت عن الشيء غفولاً من باب قعد إذا تركته على ذكر منك"(2). وعند علماء الأخلاق: "هي فتور النفس عن الالتفات والتوجّه إلى ما فيه غرضها ومطلبها، إما عاجلاً أو آجلاً"(3). ويمكن توضيحها بأنّ الإنسان في حياته، إمّا كلّها أو بعضها يسهو ويلهو عن تذكّر أمور والتوجّه إليها مع أنّ مصلحته العاجلة والآجلة فيها، وهذا ما يجعله غافلاً غير ملتفت ولا متيقّظ إلى ما هو مُقدِم عليه وقادم إليه، من مصير حتمي لم يهيئ له ما يجعله مرتاحاً مسروراً وآمناً. ويقابل هذه الغفلة التيقّظ والتذكر والالتفات إلى كلّ ما فيه غرضه ومطلبه، وما فيه مصلحته في العاجل والآجل، فيُقْدِم على التزوّد بما يريحه ويسرّه ويمنحه الأمان والاطمئنان في ما هو صائر إليه، فيكون إنساناً متذكّراً واعياً مدركاً، عاملاً لما يصلحه، مبتعداً عمّا يفسده ويضرّه.

وقد وصف الله تعالى قوماً من الجن والإنس بالغافلين، بعد أن بيّن حالهم بما يلي: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (الأعراف: 179) فالغافلون هم قوم قد أُقفلت قلوبهم وعقولهم حتى أنهم لا يفهمون ما يُقال لهم، وعميت أعينهم وهي مفّتحة حتى أنهم لا يبصرون بها، وصمّت آذانهم وهي صحيحة حتى لا يسمعون بها، فهؤلاء هم أضلّ من الأنعام. ومن الواضح أنّ الله تعالى لا يريد من نفي البصر إلا عدم التبصّر فيما يرونه، ولا من نفي السمع إلا عدم التدبّر فيما يسمعونه، ولا من عدم الفقه والفهم إلاّ عدم التأمّل والتفكّر فيما يُعرض عليهم بعقولهم وقلوبهم بل يقومون بردّه فوراً والاعتراض عليه. ولذلك وصفهم الله تعالى بأنّهم أضل من الأنعام، لأنّ الأنعام أعطيت العيون والآذان، لكن لا للتدبر والتأمّل بل لترى وتسمع بمقدار ما تصحّ فيه حياتها لِما خلقها الله تعالى له ووجهّها فيه. وذرأ أي خلق وأنشأ. وقال تعالى ﴿إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (يونس: 7-8) فإنّ من غفل عن آيات الله وقع في الذنب وقارف المعصية، فإذا مات كذلك اكتسب السيئات والآثام، وهذا موجب لدخوله النار.

* في مسبِّبات الغفلة:
نستطيع من خلال مطالعة الآيات والروايات التي وردت في الغفلة والغافلين أن نخرج بجملة من الأسباب لهذه الحالة النفسيّة الضارّة.
الأوَّل: الاشتغال بالأهل والمال وصرف العمر في رعايتهما وحفظهما، قال الله عزّ وجلّ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (المنافقون:9). فإنّ الاشتغال بالأهل والمال إلى حدّ الغفلة عن أيّ شيء آخر - حتى آخرته وما يرتبط بها - سيؤدّي قطعاً إلى الغفلة عن ذكر الله تعالى، وذكره عزّ وجلّ لا يختصّ بأنْ يذكره باللسان من تسبيح وتهليل ونحو ذلك، بل كل ما هو ذكرٌ له تعالى من قول أو عمل أو عبادة أو غير ذلك. ولهذا ورد في الحديث عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "كان أبو ذرّ رضي الله عنه يقول في خطبته: "يا مبتغي العلم، لا يشغلك أهل ولا مال عن نفسك"(4). أي لا يشغلك عن تحصيل ما ينفعك في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، والمعنى: لا تغفل بانشغالك بأهلك ومالك عن منفعة نفسك في ما هو أنت صائرٌ إليه.

الثاني: كثرة الأكل، فإنّها توجب الغفلة عن تذكّر الجوع والجائعين. ولذلك، نرى أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في خطبته في استقبال شهر رمضان يوجّه الصائمين باعتبار أن الصوم يشعر فيه الصائم بالجوع والعطش بقوله: "واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه"(5). فإنّ من كثر أكله شعر بالشبع فيتوهّم أنْ لا جائع أبداً، بل يغفل تماماً عن ذلك كما يغفل عن وقفة يوم القيامة حيث الناس على صعيد واحد أنظارهم شاخصة إلى ربّهم، يتطلّعون إلى نيل رحمته وعفوه، جياعٌ، عطاشى. وقد ورد في المعتبر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لأبي بصير: "يا أبا محمد، إنّ البطن ليطغى من أكله، وأقرب ما يكون العبد من الله جلّ عزّ إذا خفّ بطنه، وأبغض ما يكون العبد إلى الله عزّ وجلّ إذا امتلأ بطنه"(6).

الثالث: نسيان الموت والابتعاد عن ذكره، بل لو ذُكر لاشمئزّ بعضهم من ذلك واعتبروا أنّ في ذلك تنغيصاً لهناء عيشهم، وقد قيل: "إنّ الغفلة صفة للقلب توجب ترك الحق وعدم ذكر الموت وما بعده، والميل إلى الباطل وحبّ الدنيا"(7) ، أمّا من تذكّر الموت وذكره واعتبر به فإنّه لن يقع إلاّ فيما يحبّ الله تعالى ويريده، يقول أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه: "... وأوصيكم بذكر الموت وإقلال الغفلة عنه، وكيف غفلتكم عمّا ليس يغفلكم، وطمعكم فيمن ليس يمهلكم، فكفى واعظاً بموتى عاينتموهم..."(8). ومن أخطر آثار الغفلة عن الموت ونسيان ذكره تسويف التوبة بتزيينٍ من الشيطان، حتى يفاجأ بالموت وقد اقتحم غفلته ونزل بساحته لكن بعد فوات الأوان، حيث قد قضى عمره في غفلة عن ذلك فلم يقدّم لنفسه في عاجلها ما ينجيها في آجلها، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبة أخرى: "... والشيطان موكّل به يزيّن له المعصية ليركبها ويمنيّه التوبة ليسوّفها، حتى تنجم منيّته عليه، أغفل ما يكون عنها، فيا لها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجّة وأن تؤدّيه أيامه إلى شقوة"(9).

الرابع: صرف الفكر في تحصيل مشتهيات النفس من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والجاه والشهرة وجمع الأموال وكسب الأرباح، فإذا صرف فكره في ذلك، وصار أسيراً له، لا رغبة له في التفكير بغيره، بل كلّ انشغالاته الفكرية يصرفها في كيفيّة تحصيل ذلك، استولى ذلك على لبّه وأسره عقلاً وقلباً، وقع في شرك الغفلة عن ذكر الله والإعراض عن أمر الآخرة، فلا يعمل لها، ولا يزرع ما فيه خير ليحصده خيراً في آخرته، وقد ورد في الخبر عن أبي عبد الله عليه السلام: "إحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال من اتّباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم"(10).

الخامس: طول الأمل أي اعتقاد بقائه إلى مدّة متمادية مع رغبته في جميع توابع هذا البقاء من المال والأهل والدار وغير ذلك، فإنّ طول الأمل يوجب الغفلة عن ذكر الله، وذكر الموت والآخرة، فلا يعمل لها. ففي كلام لأمير المؤمنين عليه السلام يقول: "واعلموا عبادَ الله! أنّ الأمل يذهب العقل، ويكذب الوعد، ويحث على الغفلة ويورث الحسرة"(11).

السادس: الابتعاد عن مجالس الصالحين، ومجالس الوعظ وذكر الله تعالى، فقد ورد في الخبر عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام قال: وقال علي بن الحسين عليهما السلام: "مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح"(12). وذلك لأنّ كلام الصالحين يعمر قلب الأنيس ويليّن طبع الجليس ويخرجه من الغفلة والنسيان(13) ، فإذا جالس الصالحين واستمع إلى كلامهم لان قلبه وحَسُن طبعه وأقبل على تقبّل الموعظة. وإلا كانت الغفلة حاجزاً بينه وبين الموعظة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "بينكم وبين الموعظة حجابٌ من الغرّة"(14).

ختاماً: إذا تأمّلنا بأدعية أهل البيت عليهم السلام لاحظنا كم دعوا الله تعالى أن ينجيهم من الغفلة ويجنبّهم إياها، علماً أنّ غفلتهم ليست كغفلتنا لوضوح أنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين. وفي بعض أدعية الصحيفة السجادية: "ونبهّني لذكرك في أوقات الغفلة"(15). وفي بعض آخر: "وأذهب عني فيه النعاس والكسل... والقسوة والغفلة"(16). وفي ثالث: "اللهم إني أعوذ بك من الغفلة والقسوة"(17). وفي رابع: "ولا تسمنا الغفلة عنك، إنّا إليك راغبون ومن الذنوب تائبون"(18).


* أستاذ في الحوزة العلمية.
(1) لسان العرب / ج10/ص95.
(2) مجمع البحرين / ج5/ ص435/ مادة غفل.
(3) جامع السعادات/ج3/ص105.
(4) الكافي / ج2 / ص134/ح18.
(5) فضائل الأشهر الثلاثة / ص77 /ح61.
(6) الكافي / ج6/ص269/ح4.
(7) شرح أصول الكافي، مولى محمد صالح المازندراني، ج10، ص479.
(8) نهج البلاغة – شرح الشيخ محمد عبده /ج2/ص128/خ188.
(9) المصدر السابق، ج1، ص112.
(10) الكافي / ج2/ص335/ح1.
(11) تحف العقول/ص152.
(12) الكافي /ج1/ص13-20/ح12.
(13) شرح أصول الكافي للمازاندراني/ج1/ص191.
(14) نهج البلاغة – شرح الشيخ محمد عبده / ج4/ ص68/رقم 282.
(15) راجع الصحيفة السجادية ص116.
(16) دعاء النهار في شهر رمضان، المقنعة، الشيخ المفيد، ص333.
(17) الصحيفة السجادية، ص281.
(18) الصحيفة السجادية، ص116، 235، 281، 181.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع