آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص مجتمع | "الأمّ بتلمّ" مناسبة | من رُزق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حُبّها

العقبات في طريق السالكين: حجاب الغفلة


عندما يدور الحديث عن علاقة الإنسان بخالقه "عز وجل "، نستحضر تلك الطائفة من البشر الذين احتجبوا عن فيض اللَّه وهدايته. وركنوا إلى الدنيا الفانية ولذاتها المحدودة. ثم نقف وقفة أخرى أمام تلك الدعوة الإلهية التي صدع بها الأنبياء عبر عصور الدنيا وماضيها، هذه الدعوة التي تخاطب الغافلين وتناديهم للعودة إلى ذاتهم والرجوع إلى أنفسهم، فنجد نداءً مشفوعاً بالحسرة وممتزجاً بالنصيحة: حسرة على ضياع الناس، ونصيحة منطلقة من سلطان المعرفة والعقل.

فهي قصة البشرية: في أي مكان كانت، وفي أي زمان، تخبرك عن صراع مستمر لا يحسمه إلا التائبون من ذوي النفوس الكريمة. وهذا عالم الوجود مظهرٌ لعطاء اللَّه الذي لا ينتهي. ولكن وبالرغم من هذا العطاء يرفض أكثر الناس حظوظهم ويعرضون باختيارهم. ومهما قيل يبقى كل واحد - نفسه مسؤولاً عن نفسه وعن مصيره: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ.. ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ.

وغداً عندما يقف بين يدي حسابه، وعندما تتعطل كل الأسباب يقول: ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ.
إن هذا الكلام يشير إلى أحد أهم المبادئ السلوكية الذي يقع ضمن نطاق المسؤولية الذاتية للإنسان عن مصيره. أي أن كل ما يمكن أن يتصور من عوامل ومؤثرات وأسباب خارجية "مهما عظمت " لا يمكن أن تكون عاملاً في سلب الاختيار والمسؤولية عن الإنسان، إلا أن يفعل هو بنفسه ذلك.

وعندما يدرك المرء هذه المسألة، سيرى أن لديه فرصة كبيرة جداً لأجل التحرر والانعتاق من سجن الآلام والأوهام والمخاوف والأحزان. سيرى أنه أعطي قوةً لا يمكن أن تقهر ولا يقف بوجهها أحد، قوة تمكّنه من الوصول إلى أعلى مراتب الكمال مهما كان لونه أو حسبه أو وضعه الاجتماعي أو المعيشي.
سيعلم أن المانع الوحيد الذي يحجبه عن الوصول ويمنعه من العروج هو نفسه. سيجد جملة من الأشياء التي تكونت فوق صفحة النفس تريد أن تخرجه عن جادة النجاة وتهبط به في أسفل سافلين. فإذا أدركته رحمة اللَّه الواسعة سينهض لأجل إزالة تلك الموانع وتحطيمها، ويدخل في ميدان الجهاد الأكبر حاملاً راية التزكية والتهذيب.

فأول الأعداء الذين يقفون في طريقه هو نقصان قابلياته وذهاب طيباته. ولأن اللَّه تعالى قد خلق الإنسان في أحسن تقويم، فلا بد أن يعمل لاسترجاع ما ضيّع واسترداد ما ذهب.
وتكون الفرصة سانحة رغم كل الظروف. بل على العكس، عندما تشتد الصعاب وتكثر، يصبح الجهاد أوفر حظاً، والنصر قريباً. وليس عليه إلا أن يتوجه بالدعاء والمناجاة والاستكانة والتوسل لكي يرجع إليه عقله وتقوى فيه فطرته.

وبهذه الطريقة يعبر الطالب عن صدق توجهه وإصراره على الرجوع إلى قافلة الإنسانية ونبذ البهيمية الإبليسية.. فهو لا يرى في الشهوات كرامة لنفس، بل الفطرة الصافية الداعية دوماً للحقّ هي أنسه وروحه، والعقل الدال على الغيب الأول والعيش الوحيد هو هويته. وهكذا يبدأ رحلة الرجوع.
إن هذه الكلمات وإن كتبتْ بطريقة الاستعارة والكنايات، ولكنها بالنسبة لأهلها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.. ولكي يرجع الإنسان إلى الذخائر الإلهية المودعة في نفسه، عليه أن يتغلب على جملة العوامل التي أدت إلى تعطّل قابلياته أو نقصانها.

على كل واحد منا أن يعلم أن هذه الميول الفاسدة وتلك الخواطر السيئة ليست إلا انحرافاً عن الفطرة الإلهية. وإن هذا الضعف العقلي والجمود الفكري وليد التربية الخاطئة أو البيئة المنحطة، وعلى أثر الانشغال بالدنيا وملذاتها وارتكاب الذنوب والمعاصي ازداد هذا الضعف والجمود إلى الدرجة التي بدا فيها استحالة التبدل والتغيّر.
تعتبر الغفلة عن أخطر عوامل الاحتجاب عن رب العالمين لأن الغافل لا يكون ملتفتاً إلى مرضه.

إن المحيط الفاسد أو الذي لا يعيش روح الإسلام بأصالته يزرع في نفس الإنسان ومنذ بداية نشوئه ميولاً تتحول، شيئاً فشيئاً، إلى توجهات راسخة. وإذا ولد المرء من أبوين جاهلين يمارسان التجهيل المستمر قد يصل إلى مرحلة من الضعف العقلي بحيث يتخيل أنه لا دخل له بالعلم والتعلم.
وقد ثبت من خلال النصوص الشريفة والتجارب الإنسانية الكثيرة أن العقل والفطرة أمران قابلان للزيادة والنقصان بحسب إرادة الإنسان واختياره. ومهما كانت الظروف التي يعيشها أو نشأ وترعرع فيها قاسية أو ظالمة، فإن إمكانية التغيير وإرادة التكامل تبقى فيه..

وخلاصة الكلام، إننا إذا تأملنا في حقيقة العلاقة التي تربط الإنسان بخالقه نجدها علاقة معنوية لا تُحدّ بحدود الدنيا الزائلة. فهي علاقة لا تعيش إطار المكان والزمان. وعلى هذا الأساس لا يوجد أي عامل مادي "كالجبال والأمكنة والجيوش والأسلحة و... " يمكن أن يقف حائلاً أمام هذا الارتباط. فقط، الإنسان هو الذي يحتجب باختياره، ويعرض بإرادته هذا الأعراض الذي يظهر أول الأمر بصورة القضاء على القابليات الإلهية المودعة في أعماقه. وكان الإنسان هنا يقوم بقطع ما يربطه بعالم الغيب والمعنويات: أي الفطرة والعقل.

نعم، قد تلعب بعض العوالم الخارجية دوراً سلبياً ضد الفطرة والعقل، ولكن هذا الدور لا يصل إلى حد سلب الاختيار وإرادة التغيير. ومهما كانت هذه العوامل سلبية فإنها لا تقدر على قهر الإنسان إلا إذا أراد ذلك.

إن أهم عمل يساعد على إحياء العقل والرجوع إلى الفطرة هو التأكيد على الاتصال والتمسك بعالم المعنويات. وبتعبير آخر، بما أن شأن الفطرة والعقل شأن معنوي، فلا بد أن يراعي الإنسان شأنيتهما من خلال الاشتغال بالأمور المعنوية، كالتعلم والتفكر والعبادة والدعاء.

* حجاب الغفلة
أما بعض الناس، فإنهم رغم امتلاكهم للقابليات الفطرية الجيدة والاستعدادات الفكرية المميزة، فقد يعيشون حالة من البعد عن الارتباط الضروري بخالقهم عز وجل. فمع علمهم بمبادئ الإسلام وتعاليمه، لا تجد في أنفسهم هذا التحرك المعنوي والشوق الفطري لأجل السير إلى جوار اللَّه ولقائه. وتسمى هذه الحالة بلسان القرآن بالغفلة. ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ.

وتعتبر الغفلة من أخطر عوامل الاحتجاب عن رب العالمين، لأن الغافل لا يكون ملتفتاً إلى مرضه. وغالباً ما يكون ظاناً أنه على هدى وإنه يؤدي ما عليه... والمسألة الأخرى أن للغفلة مراتب كثيرة، فما أن يخرج الغافل من مرتبة حتى يقع في أخرى، ولذلك ينبغي أن نعتبر أنفسنا في أي حال من الأحوال خارجين من الغفلة، حتى ولو كنا من أهل السير والسلوك.
إن من نِعَم اللَّه تعالى على عبده أن يبصره بعيوبه وأهم أنواع الخير والعطاء الإلهي أن يعرف الإنسان أن هذه الدنيا هي دار غفلة. وعلى هذا الأساس سيتعامل مع هذا الواقع بشكل مختلف عن السابق.

وفيما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "... والفسق على أربع شعب: على الجفاء والعمى والغفلة والعتو.. ومن غفل جنى على نفسه وانقلب على ظهره وحسب غيّه رشداً، وغرته الأماني، وأخذته الحسرة والندامة إذا قضي الأمر وانكشف عنه الغطاء وبدا له ما لم يكن يحتسب.. ". إن أهم علاج للغفلة التعرف على غاية خلقنا وذكر الموت وقراءة القرآن ومعاشرة أصحاب الهمم العالية من الحكماء والأخيار.
إن الغافل يصل إلى مرحلة لا يرى في نفسه شراً، فيموت قلبه ويصعب وعظه، وهذا الأمر من موجبات الشقاوة في الدنيا والآخرة. ويعود ذلك إلى عدة أسباب، أهمها انشغاله بالدنيا وملذاتها كما ورد في الروايات الشريفة: "وإن أهل الدنيا أهل غفلة "

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "وإن طول الأمل ينسي الآخرة " فحب الدنيا يعمي الإنسان ويصمه وينسيه ما عداها، فيحسب نفسه في الدنيا من الأخيار ويكون في الآخرة من الأشرار. وإن من أعظم العقوبات الإلهية أن يصل المرء إلى هنا.
قال علي عليه السلام: "ما ابتلى اللَّه عبداً بمثل الإملاء له ".

ومن موجبات الغفلة معاشرة الفجّار ومجالسة الفاسقين، بل كل مراودة مستمرة لأهل الدنيا، بل الاقتصار على مصاحبة أهل المراتب الدنيا من الإيمان.
وبتعبير أفضل، إن ترك صحبة الأبرار وأصحاب الهمم العالية وذوي المنزلة الرفيعة يؤدي تضاعف حجاب الغفلة، حيث يرى الإنسان نفسه دائماً أفضل ممن يعاشر، ويضعف نظره إلى تقصيره.

* علاج الغفلة
وفي المقابل، يكون علاج الغفلة بالإعراض عن الدنيا ومصاحبة الحكماء والأخيار وقراءة القرآن الكريم.
فالغافل إذا أدرك أن هذه الدنيا دار ممر ومجاز، وأنه صائر إلى حياة أخرى هي الحياة الحقيقية، أي إذا عرف حقيقة الدنيا يعرض عنها ويطلبها كوسيلة وليس كغاية لآماله.

عندما يدرك الإنسان بقوة الوجدان والبرهان إن اللَّه تعالى خلفه لبلوغ أعلى مراتب الكمال، الكمال اللامحدود الذي هو اللَّه تعالى: ﴿خلفتك لأجلي فإنه لن يرى لأي كمال هو فيه قيمة تذكر. لأن كل كمال محدود لا يساوي شيئاً أمام ذلك الكمال اللامتناهي. فمهما بلغ من الإيمان والشهود ومراتب الكرامة والكشف، يعلم أن هذه رشحات من فيضه المطلق. ولن يصاب بالغرور الذي هو عين الغفلة.

عندما يتعرف الإنسان على حقيقة آثار الأعمال وتمثّلها الواقعي سيقف طويلاً أمام سوء علمه ولن تكون الذنوب عنده مجرد نقاط سوداء في صحيفة أعماله التي قد تضيع مع صفحات الأيام والسنين، بل سيشاهد هذه الأعمال بشكل دائم في نفسه وأحواله، وسيرى آثارها الواقعية في كل لحظة وفكرة. وعندها سيخرج من إحدى مراتب الغفلة.

من هنا، علينا أن نجول من حين إلى آخر في الأحاديث والروايات والآيات التي تشير إلى حقيقة الأعمال. وتعتبر قراءة القرآن الكريم من أهم عوامل اليقظة لكون آياته المباركة أعظم مذكر للإنسان، قال اللَّه تعالى: ﴿فذكر به من يخاف وعيد

وخلاصة الكلام:
- إن حجاب الغفلة من الحجب الذاتية التي يكون الإنسان مسؤولاً عن تشكلها.
- وهو من أخطر الحجب لكون الغافل بعيداً عن إدراك مرضه.
- وقد ينشأ من حب الدنيا والانشغال بها وترك صحبة الأبرار.
- أما أم علاج للغفلة فهو بالتعرف على الغاية من خلقنا ومعرفة حقيقة الأعمال وقراءة القرآن.
- ولا شك أن صحبة أصحاب الهمم العالية والمواظبة على الدعاء وذكر الموت تساهم كثيراً في التخلص من هذا الحجاب..
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع