نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

البراءة والمواجهة

الشيخ مالك وهبي


* مفهوم البراءة:
يعرف كل مسلم قارئ للقرآن، مهما كان مذهبه، أن من أركان الدين الإسلامي البراءة من المشركين والكافرين ومن كل ما هو ضد الدين، يقابله تولي المؤمنين والذين أمر لله تعالى بولايتهم. وجلهما من الأركان باعتبار أن فكرة أَمان في نفسها تستند إلى هذين الركنين أي تولي لله تعالى ورسوله والبراءة من كل ما عدا ذلك.

وليس الإيمان في الإسلام مجرد شعور شخصي لا أبعاد له على مستوى الحياة بحيث يمكن أن نعزل الإيمان عن مسارها، بل هو حالة ذات انعكاسات في المجالات الحياتية كافة الشخصية منها والاجتماعية العامة، فلا بد وأن يكون الإيمان متجسداً في كل تلك المجالات ولا يكون ذلك إلا بالبراءة والتولي، والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تمنع تولي الكافرين وتدعو للبراءة منهم. وهي في الحقيقة آيات تفصل ما أجمله شعار الإسلام "لا إله إلا لله محمد رسول لله"، ومن تلك الآيات قوله تعالى في سورة النساء: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، وهذه الآية تربط الولاية والتبري بمقام العمل والسلوك. وفي آية أخرى في سورة آل عمران: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ لله فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً، وهذه الآية تدل على أن لله بريء ممن لا يبرأ من الكافرين: ﴿فَلَيْسَ مِنَ لله فِي شَيْءٍ. ولو أردنا تعداد الآيات والتعليق عليها لطال المقام بنا، فالبراءة ركن من أركان الدين وشرط من شروط الإيمان وأساس من أسس الفلاح في الحياة والسير على نهج الإسلام.

فإذا كان هذا هو حال البراءة فإن السكوت عنها وإيقاع الناس في لبس تجاهها والإيحاء بأن ولاية الكافرين لا تتنافى مع الدين، كما يتجلى ذلك الإيحاء برؤية أغلب حكام المسلمين في أغلب بلادهم يركنون إلى الذين ظلموا وإلى الكفار والمشركين، وهم مع ذلك يدعون الحكم بالإسلام ووفق الشريعة الإسلامية، يشكل بدعة من البدع وتحويراً عملياً للمفاهيم القرآنية، لأنه يصبح على ضوء ذلك التحوير وتلك الإيحاءات أنه لا تنافي بين الدين وتلك الولاية للكافرين، وهذا إدخال في الدين ما ليس منه، لأنه ادعاء إباحة شيء حرمه لله تعالى، وهذا الادعاء يتم باسم الدين، كما صار الجميع في هذه الأيام يتحدث باسم الدين ويشرح الدين ويفسره، حتى أن بوش صار من أساتذة الدين الإسلامي. ومن المعلوم أنه كلما كانت البدعة أخطر كلما تطلب الأمر صوتاً أعلى وبراءة أشد.

ومن موارد البراءة، البراءة من البدع كما ذكرت ذلك النصوص الشرعية الواردة عن رسول لله صلى الله عليه وآله وأمة المسلمين عليهم السلام ففي حديث صحيح السند رواه الحر العاملي في الوسائل عن الكافي بسنده عن أبي عبد لله الصادق عليه السلام أنه قال: "قال رسول لله صلى الله عليه وآله إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم كيلا يطمع في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم يكتب لله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات". إذاً البراءة في بعض جوانبها تصير ضد من ينطق باسم الإسلام ويحور حقائق الإسلام ويشوهها، مثل تشويه مفهوم البراءة نفسه عندما تصبح موالاة أمريكا والدول الكافرة أمراً مباحاً رغم النصوص القرآنية الناطقة بخلافه. وهذا يعني أن البراءة من الكافرين ورفض ولايتهم والانقياد لهم تستدعي أحياناً البراءة من مروجي تلك الولاية والساعين لها، حتى لا ينخدع الناس بهم وحتى يحذروا منهم، وهي بهذا المعنى تصير من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أوجبه الإسلام واعتبره من مقومات المجتمع المسلم بحيث يصير معرضاً للزوال إذا تركت تلك الفريضة المهمة. وقد جاء في بعض النصوص عن رسول لله صلى الله عليه وآله أنه قال: "إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة لله". وفي حديث آخر عن أهل البيت عليهم السلام: "إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه فإن لم يفعل سلب نور الإيمان".

* إعلان البراءة في موسم الحج:
لم يعد الحديث عن الحج هذه الأيام، مما يمكن فضله عن الحديث عن البراءة من الشرك والمشركين ومن الكفر والكافرين، وتلك هي السنة الحسنة التي سنها الإمام الخميني قدس سره في الحج، رغم ما لاقته هذه الخطوة من بعض الاستهجان وصل في بعض المواقع إلى حد الاستنكار. وقد اختلفت مناشىء هذا الاستنكار وذاك الاستهجان. فمنهم من ارتكز على ما هو مألوف في رفض كل طرح جديد ويكاد يصنف كل مستجد على أنه بدعة ومنهم من انطلق من مسألة الدين والسياسة، هذا لو افترضنا أن الاستهجان والاستنكار ينطلق من حسن نية وإلا فالأمر يصير أبعد من ذلك بكثير. ليس فيما أقدم عليه الإمام الخميني قدس سره في شأن البراءة أي مبرر يدعو لرفضه، فهو إن لم يكن من الراجحات فهو على الأقل من المباحات. أما مسألة العلاقة بين الدين والسياسة فالكلام فيه يتناول الدين كله والسياسة كلها، وليس في ذلك ما هو خاص بالحج ويفترض إن كل مؤمن على وعي تام بأن السياسة، بمعنى الاهتمام بشؤون المسلمين العامة، والعمل على تهيئة كل المناخات اللازمة من أجل استرداد الحقوق ومواجهة الظالمين، وإدارة شؤون المسلمين بما يحقق مصالحهم التي دعا الإسلام إلى تأمينها، هي سياسة تدخل في صلب ديننا وشأن من شؤون الدين الإسلامي الحنيف، وهذه نقطة لن نطيل الكلام فيها، نفترض هنا أنها مسألة واضحة تماماً، وبالتالي لا يصح رفض أي خطوة بحجة الدين والسياسة.

* أما الحديث عن البدعة فهو أمر مستغرب:
فأولاً: ليست البراءة في الحج من الكافرين والمشركين ببدعة بل سبق وأن أتى الرسول بها في موسم الحج وفي يوم النحر على وجه التحديد، على ما رواه المسلمون كافة في تفسير قوله تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ لله وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي لله وَأَنَّ لله مُخْزِي الْكَافِرِينَ ﴿وَأَذَانٌ مِنَ لله وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ لله بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴿فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي لله وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ... وقد نزلت هذه الآيات في السنة التاسعة للهجرة أي قبل عام من حج الوداع. وفي الكافي بسند صحيح عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد لله عليه السلام عن يوم الحج الأكبر، فقال: "هو يوم النحر والحج الأصغر العمرة. وقد ذكر المفسرون والمؤرخون أن هذه الآيات قد بعث بها رسول لله صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام ليبلغها للمشركين في موسم الحج، فوقف الإمام علي عليه السلام في الناس يوم الحج الأكبر فتلا هذه الآيات على مسامع الجميع بما فيهم المشركون الذين كانوا في تلك السنة يحجون مع المسلمين، وكان ذلك آخر عام سمح فيه للمشركين بأن يكونوا في مكة ومن بعدها طردوا من مكة ومنعوا أن يقربوا المسجد الحرام.

وقصة بعث علي عليه السلام بالبراءة مشهورة معروفة، فإذا فعل رسول لله صلى الله عليه وآله ذلك في موسم الحج فأين البدعة في ذلك. ولو كان ذلك يضر بالحج وتنافى معه، لكان من الممكن أن يتم تبليغ تلك الآيات للمشركين في مكة قبل أن يأتي موسم الحج فاختيار موسم الحج على نحو التحديد له دلالة كبيرة، وقد فهمها الإمام الخميني ووعاها، ذلك أن الموسم يضم مسلمين من أقطار الأرض فهو يعبر عن توجه عام على المسلمين أن يتنبهوا له يوم الحج وليطهروا قلوبهم من كل ما عدا لله، ففي إعلان البراءة في موسم الحج تأسٍّ برسول لله صلى الله عليه وآله.

وثانياً: إن إعلان البراءة من المشركين أمر لا بد منه على كل حال، وفي كل زمان، وهو لا يمكن أن يكون مباحاً في زمان دون زمان بل إن من أفضل الأزمان والأحوال موسم الحج حيث يتم تجسيد "لا إله إلا لله" بصورة هي من أجمل صور التوحيد، وهذا بنفسه يوجب رجحان الفعل إضافة إلى الرجحان الناشىء من التأسي برسول لله صلى الله عليه وآله. لا يمكن للمسلمين وهم يرون هذا الحشد الهائل الذي يظهر في موسم الحج، أن يغضوا النظر عن مصالحهم الإسلامية وواجباتهم الدينية، وإذا نظرنا إلى مجتمع المسلمين لنتعرف على أخطر مشكلة يمر بها المسلمون في العصر الحاضر لوجدنا إنها الفرقة والاختلاف الشديدين في أمر السياسة وتدبير الأمور، والخطر يشتد عندما نجد أن الكثير من الحكام باتت وقد أسلمت قيادها للكفار الساعين للقضاء على ديننا، وبات جملة من العلماء ممن ينظرون لتلك الحكومات، وهناك شعوب نائمة قد نسيت تكاليفها الإلهية ونسيت أن المسلمين أمة واحدة عليهم التفكير كأمة عظيمة تسعى لتجسيد المعاني الإسلامية والتي من أهمها تخليص بلاد المسلمين من سطوة الكفار عليها وتحكمهم بمقدراتها، فكان لا بد من توجيه النداء إلى كل المسلمين ليستيقظوا وليعيشوا القيم الحقيقية للإسلام في أكبر حشد يتجمع فيه المؤمنون، وهو موسم الحج، إن إعلان البراءة من المستكبرين في موسم الحج أسلوب من أساليب إيقاظ الشعوب وهو أفضل منبر لإبلاغ التحذير للناس.

ليس من المفهوم أن يبادر الآخرون إلى استنكار ذلك الإعلان، ولا أن يُعبَّأ المسلمون تعبئة مضادة لرفضه، إلا على أساس أنهم أنفسهم منزعجون منه، لأنه يذكرهم بسوء عملهم ويجعلهم في موقع الإدانة إزاء توليهم للكافرين واستسلامهم لهم، وبالتالي يجعلهم في موقع الآتين بالمنكر الذين لا بد من نهيهم عنه، كما يجعلهم في موقع أصحاب البدع الذين يدعون أباحة ما هو حرام وبالتالي يجعلهم في موقع البراءة أنفسهم إلى جانب الكفار، فلله تعالى قد بريء من هؤلاء الذين يوالون غير المؤمنين، كما تقدمت الإشارة إليه في بداية البحث.

إن ما قد يعترض به بعض الجهلة من إن الحج عبادة فلا يجوز إشغالها بغير التعبد لله تعالى، لهو اعتراض ناشئ عن غفلة أو عن إغفال أن العبادة في الإسلام ليست أمراً منفصلاً عن الحياة الاجتماعية العامة، فرب عبادة تكون ذات مدلول سياسي عظيم دون أن يفقد ذلك عن عباديتها مثقال ذرة بل ربما يعلي من شأن عباديتها، ولن تجد في الإسلام عبادة تعبر عن جانب فردي شخصي في حياة الإنسان حتى أن الصلاة التي ربما تكون الصق العبادات بالحياة الشخصية، مع ذلك فإن الإسلام رب إلى صلاة الجماعة حتى قيل أن في صلاة الجماعة شبهة وجوب، دون أن ننسى صلاة الجمعة بما فيها من مداليل سياسية واضحة للجميع. والخلاصة أنه لا تكتمل عبادة ولا يكتمل إيمان بدون التولي والتبري، وحيث أن مشكلة التولي والتبري قد بلغت حداً خطيراً، فهذه يدعو إلى أن يكون صوت البراءة عالياً وفي أكبر مجمع ديني عبادي، وليس أفضل من موسم الحج لذلك. وإعلان البراءة وظيفة العلماء ولذا رأى الإمام الخميني قدس سره أن وظيفته كعالم عامل بدين لله أن يظهر علمه ويدعو للبراءة من الكافرين، لكي تبقى الحقيقة ناصعة واضحة.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع