نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

دور العقل في المعرفة الدينية

الشيخ إبراهيم بدوي‏


ورد عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: "لما خلق اللَّه العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب، وإياك أثيب"(1).

* معنى العقل ودوره في المعرفة
العقل لغة بمعنى الربط، فبه تُربط الأهواء والشهوات وتُعقل من أن تطغى وتجمح بالإنسان، وقد منّ اللَّه تعالى به عليه ليتمكن من معرفة الأمور فيزنها ويميز بينها فيتبع الحسن منها ويتجنب السي‏ء فيها. والعقل طاقة عظيمة تؤمِّن لنا الكثير الكثير من المعارف التي نحتاج إليها، فهو يدرك المحسوسات من خلال الحواس، وينتزع من المحسوسات الجزئية معاني كلية كالوجود والعدم والإمكان والاستحالة كما ينتزع منها قضايا كلية مثل "النقيضان لا يجتمعان" و"لكل معلول علة"، وتعرف هذه القضايا بالقضايا البديهية، ويمكنه أيضاً أن ينتزع منها قضايا كلية غير بديهية تسمى بالقضايا النظرية مثل "كل إنسان ميت"، و"كل متغير حادث".

* العقل ما عبد به الرحمن‏
وإذا كان من غير الممكن للعقل إدراك الأمور الجزئية إلا من خلال الحس فإنه يدركها به من خلال معرفة آثارها، وذلك كمعرفة أن وراء الباب شخصاً عندما نسمع قرعاً على الباب، فترانا نقطع بوجوده ولو لم نره بأعيننا وندرك وجود علة للقرع على الباب هو ذلك الشخص. وبما أن اللَّه تعالى لا يمكن رؤيته وإدراكه بالحواس فالعقل يعرفه من خلال معرفة أثاره ومخلوقاته ويدرك صفاته وأفعاله، فعن الإمام الصادق د حينما سأله أحد أصحابه: ما العقل؟ قال: "ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان"(2).

وذلك لأن معرفة اللَّه تعالى لا تتم بالحواس حيث يقتصر دورها على معرفة الأشياء المادية الظاهرة لها، ولا قدرة لها على معرفة ما وراءها من العوالم الأخرى. وبالعقل يمكن إدراك صدق الأنبياء وضرورة نصب الإمام للأمة كما سيأتي، وبه يحصل الإيمان الكامل وتكتسب السعادتان الدنيوية والأخروية.

* الإسلام والعقل‏
وقد أطلق الإسلام عنان العقل وحثه على التفكر والتدبر والمعرفة، فهذا القران الكريم يصدح فينا عبر التاريخ يدعونا للتفكر وإعمال القدرة العقلية التي أنعم اللَّه بها علينا فيقول: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران/191)، ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة/164). وينكر على الذين لا يستخدمون عقولهم في التفكر والتدبر، فيقول: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (الأعراف/179).

* العقل وفهم القران‏
للعقل دور كبير في فهم الآيات القرآنية التي لا يراد ظاهرها، فيعمد إلى تأويلها بما يتناسب وأحكامه العامة القطعية، فإذا قرأنا قوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم(الفتح/10)، علمنا أنه لا يراد من اليد معناها المتعارف، وذلك لأن العقل يدرك أن اللَّه تعالى ليس جسماً، ويستحيل عليه أن يكون جسماً وبالتالي فمن غير المعقول أن يكون له يد ورجل، إذن لا بد من إرادة معنى آخر من الآية، فيفسرها بما يتناسب معها بحسب اللغة العربية من معان مجازية كالقدرة مثلاً. جاء بعض الزنادقة إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقال له: لولا ما في القران من الاختلاف والتناقض لدخلت في دينكم. فقال له عليه السلام: وما هو؟ قال: قوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ (التوبة/67). وقوله: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا (الأعراف/51). وقوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (مريم/64).

وسرد له من هذا النمط من الآيات التي ظاهرها التناقض الشي‏ء الكثير. فأجابه أمير المؤمنين د بقوله: "فأما قوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إنما يعني نسوا اللَّه في دار الدنيا فلم يعملوا بطاعته، فنسيهم في الآخرة، أي لم يجعل لهم من ثوابه شيئاً، فصاروا منسيين من الخير..." إلى أن يقول: "وأما قوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا فإن ربنا تبارك وتعالى علواً كبيراً ليس بالذي ينسى، ولا يغفل، بل هو الحفيظ العليم". وقد تقول العرب: نسينا فلان فلا يذكرنا: أي أنه لا يأمر لهم بخير، ولا يذكرهم به(3).

* العقل إمام الحواس‏
وللعقل دور آخر مهم جداً في حياة الإنسان، وهو تصحيح أخطاء الحس في ما يدركه، فقد يقع الحس بالخطأ نتيجة تداخل أسباب غير معروفة له، كأن يرى الشي‏ء البعيد أصغر من حجمه الحقيقي أو يرى العصا التي في الماء مكسورة أو يرى طرف الحبل المشتمل على شكل دائرة من النار حين ندوِّره بسرعة، وهكذا، فإن العقل يتدخل في هذه الموارد ويصحح هذه الأخطاء، ويبين ما هو الصحيح، وربما سمي حينئذ "القلب". وقد استدل به المتكلمون القدامى على الإمامة من خلال هذا الدور المهم الذي يقوم به حيث عدُّوه إماماً للحواس يصلح أخطاءها كما يقوم الإمام بإصلاح أخطاء الأمة. سأل الإمام الصادق عليه السلام هشام ابن الحكم وهو شاب: "يا هشام... ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟"
قال هشام: قلت: ألك عين؟ قال: نعم.
قلت: فما ترى بها؟ قال: الألوان والأشخاص.
قال: قلت: فلك أنف؟ قال: نعم.
قال: قلت: فما تصنع به؟ قال: أشتم به الرائحة.
قال: قلت: فلك فم؟ قال: نعم.
قال: قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم.
قال: قلت: ألك قلب؟ قال: نعم.
قال: قلت: فما تصنع به؟ قال: أميز به كل ما ورد على هذه الجوارح.
قال: قلت: أليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال: لا.
قلت: وكيف ذاك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني الجوارح إذا شكَّت في شي‏ء أو رأته أو ذاقته ردته إلى القلب، فيتيقن اليقين ويبطل الشك...
قال: قلت: يا أبا مروان إن اللَّه لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يصحح لها الصحيح ويتيقن لما ما شكَّت فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكِّهم واختلافاتهم لا يقيم لهم إماماً يردُّون إليه شكهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك!...
فضحك أبو عبد اللَّه عليه السلام، ثم قال: "يا هشام من علمك هذا؟ قال: قلت: يابن رسول اللَّه جرى على لساني".
فقال: "يا هشام، هذا واللَّه مكتوب في صحف إبراهيم وموسى(4)".

* موارد قصور العقل‏
والعقل رغم كونه طاقة عظيمة تؤمن لنا الكثير من المعارف باستنتاجاتها وتحليلاتها، لكنه في نفس الوقت قد يؤدي بنا إلى الضياع إن أسأنا استخدامه وخالفنا شروطه. فما لم تكن أحكام العقل قطعية فلا عبرة بها، إذ الظن يكشف عن الواقع بمقدار لا ينتفي معه احتمال الوقوع بالخطأ، فالدين مثلاً بما فيه من أحكام شرعية وأمور غيبية لا يدرك بالعقل؛ لهذا ورد عن الأئمة الأطهار مكرراً: إن دين اللَّه لا يصاب بالعقول(5). من هنا امتاز الفكر الإمامي بالاعتماد على أحكام العقل القطعية كإدراك حسن العدل وقبح الظلم، ورفض الأحكام الظنية التي لم يثبت اعتبارها بدليل قطعي مثل القياس والاستحسان والرأي وما شابه ذلك.

وقد سجلت كتب المناظرات الكلامية احتجاجاً جرى بين الإمام الصادق وأبي حنيفة حول دور العقل في معرفة الأحكام الشرعية إذ يرى أبو حنيفة إمكان التوصل بالقياس والرأي إلى معرفتها. فقال له عليه السلام: "... فانظر في قياسك إن كنت مقيساً أيهما أعظم عند اللَّه القتل أو الزنا؟" قال: بل القتل. قال: فكيف رضى في القتل بشاهدين، ولم يرض في الزنا إلا بأربعة؟ ثم قال له: "الصلاة أفضل أم الصيام؟" قال: بل الصلاة أفضل. قال عليه السلام: "فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب اللَّه تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة..." قال: إنما أنا صاحب رأي. قال عليه السلام: "فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوج عبده في ليلة واحدة، فدخلا بامرأتيهما في ليلة واحدة ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد وولدتا غلامين فسقط البيت عليهم، فقتل المرأتين وبقي الغلامان أيهما في رأيك المالك وأيهما المملوك وأيهما الوارث وأيهما الموروث؟" قال: إنما أنا صاحب حدود(6)...

فإذا أضفنا إلى الأحكام الشرعية الأمور الغيبية التي لا تقع تحت قدرة الحواس، وليس بمقدور العقل إدراك تفاصيلها مثل العوالم العليا كالملائكة والعرش والكرسي، وكعالم الآخرة كالجنة والنار، وكأخبار الماضين وأخبار الآتين، علمنا أن العقل عاجز عن الوقوف على تفاصيل هذه العوالم فيحتاج الإنسان إلى مصدر آخر للمعرفة ألا وهو الوحي، من هنا كانت الحاجة إلى النبوة. إذن، العقل دليل إلى اللَّه تعالى وإلى فهم القران الكريم والسنة النبوية الشريفة وإلى النبوة والإمامة بطرق مختلفة؟ من هنا تدرك أهمية دور العقل في الثقافة الإسلامية فدوره الأساسي هو معرفة الأصول العقائدية وقد يدخل في القليل من الأحكام الشرعية إذا كان حكمه قطعياً ؟


(1) الكليني، الكافي، ج‏1، ص‏26.
(2) المصدر السابق، ج‏1، ص‏11.
(3) الطبرسي، أحمد بن علي بن أبي طالب، الاحتجاج، ج‏1، النجف الأشرف، دار النعمان، 1966، ص‏359.
(4) الحلبي، أبو الصلاح، تقريب المعارف، تحقيق ونشر فارس الحسون، ص‏5.
(5) الشيخ المفيد، أوائل المقالات، تحقيق إبراهيم الأنصاري الزنجاني، دار المفيد، بيروت، ص‏228.
(6) الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، ج‏2، ص‏116.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع