نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الولاية والشهادة



ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر "إني تارك فيكم الثقلين، كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".
يتضمن هذا الحديث أهم وصية أوصى بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي أنه ترك لأمته من بعده ما يهديها أبداً سواء السبيل مهما تعددت المسالك وتوزعت المذاهب وتنوعت العقائد، ولكن ينبغي على الأمة أن تلتفت إلى هذين الثقلين معاً بحيث لا يكفي أن تأخذ بأحد هما وتم ترك الآخر، إلا أن المؤسف أنه بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم انقسمت الأمة إلى فريقين:

الأول: اكتفى بالتمسك بالثقل الأكبر فقط وهو "القرآن" ظنتاً أن ذلك كافٍ في منع الأمة من الانحراف والضياع، وقال "حسبنا كتاب اللَّه".

الثاني: وهم الذين يطلق عليهم اتباع أئمة أهل النبي عليه السلام، الذين التزموا حرفياً بوصية رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وتمسكوا بالثقلين معاً... القرآن وأهل البيت، ولم يكتفوا بأحدهما عن الآخر.
أما الذين اكتفوا بالقرآن فقط، فقد كان هذا الأمر سبباً لظهور العديد من الفرق والمذاهب بسبب الاختلاف الكبير الذي ذهب إليه العلماء في العصور السابقة حول تفسير آيات ذلك الكتاب وقد لعب الذين حكموا باسم الإسلام من الأمويين والعباسيين دوراً كبيراً في هذا الأمر لحاجتهم إلى الهاء المسلمين بمثل هذه التفاسير المختلفة لتمزيق وحدة الأمة ليحافظوا على عروشهم وحكوماتهم التي توصلوا إلى رئاستها عندما لم تلتزم الأمة جمعاء بوصية رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يحذر الأمر من هذا الانقسام في أكثر من حديث حتى في صحاحهم كما في ما روي عنه "الخلافة بعدي ثلاثون عاماً ثم تكون ملكاً عضوضاً"، أو كما روى عنه صلى الله عليه وآله وسلم الإمام الحسين عليه السلام "إذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه" فيعقب الإمام عليه السلام على هذا الحديث بقوله "فلما لم يفعل المسلمون ذلك ابتلاهم اللَّه بيزيد".

وأما الذين التزموا الثقلين معاً، فقد دفعوا ثمن هذا الالتزام عبر التاريخ دماءً غالية سالت على يد الجلاوزة الظالمين من استغلوا الإسلام غطاءً لممارساتهم الإرهابية بحق هذه الفئة من المسلمين التي سارت على خطى أئمة أهل البيت عليه السلام الذين كانوا الضحية الأولى للتفريق الخطير ما بين الثقلين، وليست شهادة أمير المؤمنين عليه السلام وقتل الإمام الحسن عليه السلام بالسم، وكربلاء الحسين عليه السلام إلا شواهد على هذه الحقيقة المرة والمفجعة التي أصابت الأمة بعد غياب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

ولا معنى للتمسك بالثقلين أظهر من أن أئمة أهل البيت عليه السلام أصحاب الولاية على الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم أهل القرآن "الثقل الأكبر" والمخاطبون به والعارفون بأهدافه ومعانيه ومقاصده، وإلا لم يكن هناك معنى ومضمون للربط بين هذين الثقلين، ولكان الأئمة عليه السلام كغيرهم من المسلمين الآخرين لا يتميزون عنهم شيء.

إلا أن سيرة الأئمة عليه السلام أثبتت صدق ربط النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم وبين القرآن وكان هذا الربط واضحاً من خلال الالتزام العميق والدقيق في آن معاً من الأئمة عليه م السلام بكل ما جاء به الإسلام من مفاهيم وأحكام وأخلاق وسلوك، فكانوا في حياتهم منارات الهدى التي تنير درب المستنيرين القاصدين للوصول إلى اللَّه والارتباط به عن عقيدة وإيمان راسخين.
من هنا نعتبر أن ولاية أئمة أهل البيت عليهم السلام هي أثمن ما أنعم اللَّه به على هذه الأمة بعد نبوة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أروع مظهر من مظاهر تجليات النبوة الخاتمة في مسيرة المسلمين والبشرية.

فولاية الأئمة عليهم السلام هي الأمان من الضياع وهي مفتاح الفلاح وباب النجاة وهي سفينة نوح التي من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى، والولاية هي التي إذا تأخرنا عنها هلكنا وإذا سبقناها تهنا وضعنا، وهي الخميزان الدقيق لصحة أعمالنا وسلامة مسيرتنا، وهي بالنهاية طريق وصولنا إلى الحياة الآخرة بسلام لنكون إلى جوار الأنبياء والأولياء والصّدّيقين والشهداء من عباد اللَّه.

أليست هذه المواصفات للأئمة عليهن السلام هي مفاد الكثرة من الروايات الواردة عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فهل كان يقولها من باب المحاباة، أو من باب تبيانه الحقيقة والواقع؟ لا شك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، علَّمه شديد القوى، إذ لا يعقل بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم الذي ضحى ما ضحى وجاهد ما جاهد، ثم يوصي أمته بشيء مغاير ومخالف لما بذل في سبيله وصرف الكثير من عمره الشريف من أجل تحقيقه والوصول إليه.

لهذا كله كانت ولاية الأئمة عليهم السلام صنو القرآن بل المفسر والمبين لمراداته، ومن دونهم لا بد من الوصول إلى الانقسام والتشتت والضياع، وهنا كانت مأساة هذه الأمة قديماً وحديثاً أيضاً، فلم تجتمع منذ ذلك اليوم ولم تعرف الوحدة سبيلاً إلى جسم هذه الأمة الذي تمزق عندما فصل ما بين القرآن... الثقل الأكبر... وأهل البيت عليه السلام الثقل الأصغر.

إن تاريخ أئمة أهل البيت عليهم السلام وسيرتهم لا تدع مجالاً للشك في أحقيتهم بالولاية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعلى مستوى العلم فهم لم يتلقوه عن أحد، بل توارثوه. واحداً بعد الآخر عن جدهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى مستوى العبادة والمعرفة باللَّه لم يقرب أحد من منزلتهم ومرتبتهم في هذا المجال، وعلى مستوى الجهاد والصبر والتحمل دفاعاً عن الإسلام لم يرق أحد إلى مستوى عظمتهم وضخامة عطائهم في هذا الحقل أيضاً، فمن أية جهة أو أي جانب نظرت إليهم تراهم القدوة والنموذج والمثل الأعلى الذي ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير كما قال أمير المؤمنين وسيد البلغاء علي بن أبي طالب عليه السلام.

لأجل هذا كله، لم يستطع كل الذين تحكموا بالأمة وتسلطوا عليها أن يحتملوا وجود تلك النماذج البشرية الكاملة المتوهجة بالأنوار الإلهية والمرصعة بالجواهر الربانية، فكان القتل سلاحاً بيد أولئك الظلمة من أهل النفاق ووسيلة للخلاص منهم ومما يمثلون من مبادئ ومثل وقيم سماوية رائعة كان الأئمة عليه السلام يجسدونها حية في واقع الأمة وفي حركتها، ولهذا قال الإمام زين العابدين عليه السلام لعبيد اللَّه بن زياد "القتل لنا عادة وكرامتنا من اللَّه الشهادة" وهو أسير لديه وموقوف بين يديه.

لأجل هذا نقول أن من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة والحجج المانعة هي الشهادة "القتل في سبيل اللَّه" التي صبغت حياة الأئمة عليه السلام "ما منا إلا مقتول أو مسموم".
لهذا نقول أن الولاية في أبرز تجلياتها وأقوى مظاهرها تعني "الاستقامة" ولهذا نجد أن اللَّه سبحانه خاطب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقول ﴿فاستقم كما أمرت، إذ لا معنى لأن تكون الولاية لأحد إذا لم يكن مستقيماً في فعله وقوله، صادقاً في كل ما يعمل ويقول، أميناً على ما استؤمن عليه، وفياً لما عهد به إليه، ولأجل هذه الاستقامة التي التزمها أئمة أهل البيت عليهم السلام دفعوا حياتهم ثمناً لها، لكنهم بذلك أورثوا أتباعهم ديناً سليماً خالياً من العيوب والتحريف والتزييف، فصحيح أن اللَّه عز وجل قد قال: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون إلا أن دماء الأئمة عليهم السلام وشهاداتهم الحمراء لعبت دوراً فاعلاً وأساسياً في ذلك إذ لو لا استقامتهم لضاع القرآن بين المختلفين  في فهم مقاصده ومعانيه، فقد كانوا الميزان الذي يوزنون به كل تفسير أو تأويل ويبطلون ما لا يريد اللَّه، ويريده أصحاب المقاصد والأهواء.

لقد كانت شهادة الأئمة عليه السلام عنوان ولايتهم وشعار إمامتهم، فبها عرفوا، وبها انتصروا على كل النفاق والزيف والتزوير الذي ملأ كتب التاريخ وصفحاته فهم الأحياء الحقيقيون بينما الذي حاربوهم هم الأموات الفعليون وأتباع الأئمة هم المستنيرون بهدي أنوار النجوم الإلهية، وغيرهم الذين يسيرون على غير هدى ولا كتاب منير.

إن أبرز تجليات الولاية وأقوى مظاهرها في الاستقامة في الاستقامة وهي التي دفعت بأئمة أهل البيت عليهم السلام نحو الشهادة والتضحية في سبيل حفظ الدين من الضياع والتحريف.
إن شهادة الأئمة عليهم السلام المعبرة عن قوة الحجة والبرهان على أحقيتهم وأسبقيتهم هي التي زرعت في نفوس أتباعهم القوة والإرادة والعزم على البقاء في هذا الخط متحدين كل الصعاب، ومستهزئين بكل الضجيج الذي أثاره أهل النفاق ليزعزعوا ثقة هؤلاء الاتباع بخط الأئمة عليهم السلام، وليوهنوا العقيدة هي النفوس، وليهزموا الإرادة التي سكنت قلوب شيعة أهل البيت عليهم السلام إلا أن كل ذلك سقط أمام عظمة الصمود وصلابة التحدي والمواجهة التي التزمها هؤلاء في مواجهة كل ذلك الجو.

وها هو الإمام الخميني العظيم سلام اللَّه عليه في مقدمة وصيته الخالدة للمسلمين عموماً يقول "... وبعد... وجدت من المناسب أن أذكر نبذة قصيرة وقاصرة في باب الثقلين، لا من حيث المقامات الغيبية والعرفانية والمعنوية فقلم مثلي عاجز عن الجسارة في مرتبة يستعصي عرفانها ولا يطاق تحمله إن لم نقل أنه ممتنع على كل دائرة الوجود ومن الملك إلى الملكوت الأعلى ولا من حيث ما جرى على هذين الثقلين من أعداء اللَّه والطواغيت المتلاعبين، فتعداد ذلك ليس ميسوراً لمثلي لقصور الاطلاع والوقت المحدود بل رأيت من المناسب ذكر إشارة عابرة وقصيرة جداً إلى ما مر على هذين الثقلين. لعل جملة "لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض" إشارة إلى أن كل ما جرى على أحد هذين الاثنين بعد الوجود المقدس لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فقد جرى على الآخر... وهجران كل منهما هجران للآخر، إلى أن يرد هذان المهجوران على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم الحوض...".

من كل ما سبق نفهم الربط والاقتران الأكيد ما بين الولاية والشهادة، هذان المفهومان الكبيران اللذان يعتبران الإرث الأكبر لخط أهل البيت عليهم السلام ونفهم أن الولاية تعني الاستقامة وإن الشهادة تعني القوة في مواجهة كل الذين لا يتحملون الحق ولا يطيقون وجوده، لأنهم ليسوا بقادرين على أن يتعايشوا معه، ولهذا يسعون إلى محاربة الحق بمحاربة أهله وقتلهم وسجنهم وتعذيبهم وتشريدهم لعلهم بذلك يخفون ضعفهم وحقارتهم وصغارهم وذلتهم أمام حطام الدنيا الزائلة والمتع الدنيوية الرخيصة التي يتخلى عنها الأولياء طوعاً من موقع قدرتهم واستطاعتهم في الحصول عليها، بينما أهل الأطماع وأسرى الشهوات وسجناء الملذات يتسابقون عليها بل ويتقاتلون في سبيلها وكأنها النعيم الذي لا نعيم بعده.

نسأل اللَّه عز وجل أن يثبتنا على ولاية أهل البيت عليهم السلام وأن يحيينا حياة محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن يميتنا ممات محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن يرزقنا في الدنيا زيارتهم وفي الآخرة شفاعتهم، أنه سميع ومجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع