فضيلة الشيخ حسين شمص
روي الحاكم في المستدرك بسنده عن بعلي العامري وصححه أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمام القوم وحسين مع الغلمان يلعب فأراد رسول الله أن يأخذه فطفق الصبي يفر هاهنا مرة وها هنا مرة فجعل رسول الله يضاحكه حتى أخذه، قال فوضع إحدى يديه تحت قفاه والأخرى تحت ذقنه فوضع فاه على فيه يقبله فقال: (حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط".
هذه الكلمة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفهم المسلمون معناها تماماً في ذلك الوقت إذ أن الحسين عليه السلام من النبي ولادة ونسباً فهذا أمر واضح وجلي ولكن كيف يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحسين عليه السلام.
هذه الكلمة تجلى معناها حقيقة بعد الثورة المباركة التي قام بها الإمام الحسين عليه السلام حيث أنها أحيت الإسلام من جديد بعد أن اندثرت مفاهيمه أو تشوهت في أذهان الأمة من خلال الممارسات المشبوهة والمنحرفة التي قام بها الحكم الأموي بعيداً عن مفاهيم القرآن والرسالة. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما بقاؤه واستمراره باستمرار رسالته وسيرته ومن هنا صح أن يقال إن الإسلام محمدي الوجود الحسيني البقاء إذ لولا خروج الحسين عليه السلام لاندرست معالم الدين وتمركزت البدع وضاعت السنن كيف لا يكون ذلك ويزيد يقول متمثلاً بقول ابن الزعبري:
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندق إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل
وأبوه من قبله يقول لأحد مخلصيه من أعداء الرسالة: (وهذا ابن أبي كبشة - يعني بذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - ما رضي حتى قرن اسمه باسم الله فيصاح به كل يوم خمس مرات على المآذن لا والله إلا سحقاً سحقاً لا والله إلا دفناً دفناً) والوصية التي زرعها في نفوسهم جده أبو سفيان عندما قال لبني قومه: (تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الصبيان للكرة فو الذي يحلف به أبو سفيان لا جنة ولا نار). بهذه النفس الخبيثة استطاع بنو أمية أن يصلوا إلى مراكز القيادة في الأمة وعملوا بكل جهد وقوة لإعادة الأمة من حياتها الرسالية إلى حياتها الجاهلية وقد استطاعوا إلى حد أن يصلوا إلى هدفهم المشؤوم حيث فقدت الأمة إرادتها وقدرتها على مواجهعة الأوضاع الفاسدة وعاشت الذل والتبعية للعهد الفاسد الذي حول الخلافة الإسلامية إلى حكم كسروي هرقلي وملكاً عضوضاً يتمتع بكل مواصفات المجتمع الجاهلي من موازين ومنطلقات فالأمة لم يعد باستطاعتها رفض الانحراف بل أصبحت يدها ولسانها ملكاً لشهواتها ولم تكن تملك عقلاً وقلباً تتحرك بهما للتغيير مع إدراكها أن بني أمية ينتهكون حرمة الإسلام ليل نهار.
أمام هذا الواقع المرير الذي عاشته الأمة لم يكن أمام الإمام الحسين عليه السلام خيار إلا الحركات الثورية بوجه النظام الحاكم من أجل توحيد الأمة تحت راية القرآن والرسالة، فالكلمات والخطب والمواعظ لم تعد تحقق أي إ صلاح واستقامة، وإنما احتاجت الأمة إلى هزة ضمير تعيدها إلى صحوتها وهزة الضمير هذه لم تكن لولا الأسلوب الذي قام به الإمام عليه السلام من خلال إبراز الانحراف والحقد الأموي على الرسالة من جانب، وإظهار مظلوميته مع رجالات الإصلاح في الأمة وحركة السبايا التي كانت منبراً إعلامياً للثورة من جانب آخر، كل ذلك أدى إلى تفاعل الندم والحزن في الأمة فولد عندها الغضب ورغبة حارة في التكفير عبرت عنه بالمواقف التي وقفتها ضد النظام ورجاله بعد الثورة وجعلت من شعار "يا لثارات الحسين عليه السلام" شعاراً لكل الثائرين.
فالإمام عليه السلام منذ اللحظة الأولى لحركته عبر عن هدفه الرسالي وهو الإصلاح والتغيير وتوحيد الأمة تحت حكم الله العادل من خلال التمسك بالمفاهيم الرسالية الصحيحة وهو القائل عند خروجه: (والله إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدثي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن ردّ عليّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين)، وقوله أيضاً: (إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذيني).
وقضى الإمام شهيداً معبراً بدمائه الطاهرة ودماء أصحابه عن شجبهم واستنكارهم لهذا الانحراف الذي حصل في الأمة وذلك أدى إلى توحيد الأمة واستنهاضها ضد الواقع الفاسد والخلل الحاصل فيها وبقيت هذه الثورة المباركة عبر التاريخ دافعاً نحو الإصلاح والتغيير في كل مرحلة احتاجت الأمة فيها إلى صحوة من خلال ذكر المصيبة والواقعة الكربلائية في كل مناسبة. وقد أكد الأئمة عليه السلام على استمرار إحياء عاشوراء وقد قاموا بذلك بأنفسهم واستفادوا منها لترسيخ المفاهيم الإسلامية الصحيحة وبقيت مجالس العزاء خاصة في المواسم الدينية وفي شهري محرم وصفر من كل عام ظاهرة منتشرة على نطاق واسع في معظم الأقطار الإسلامية، وهذه الظاهرة خدمت الثقافة الإسلامية إلى حدّ كبير ولعبت دوراً هاماً في تثقيف الناس وتوعيتهم بشؤون دينهم ودنياهم لأن هذه المجالس لا تخلو من الخطب والمواعظ المستفيضة عن سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار إلى جانب ذكر مصيبة الحسين عليه السلام في كل مواقفه التي عبر كل موقف منها عن مفهوم قرآ ني رسالي كمفهوم التضحية والعزة والصلاة والمساواة بين المؤمنين والإخاء والإيثار والعدالة والطاعة وغير ذلك من المفاهيم الكثيرة التي جسدها الإمام في حركته، بالإضافة إلى ذلك فالخطيب يتطرق إلى وقائع العصر ومدى علاقتها بالدين الأمر الذي يزيد من تثقيف الناس ومن معلوماتهم الدينية والدنيوية لذلك يمكن القول إن إحياء مجالس العزاء ترسيخ للثقافة الإسلامية وإن المنبر الحسيني قد خدم الدعوة الإسلامية وسهم بشكل فاعل في انتشارها.
فأئمة أهل البيت عليهم السلام قد حثوا الأمة على إحياء عاشوراء لأن إحياءها يكشف للناس باستمرار عن الخط الذي انتهجه أئمة أهل البيت عليه السلام في حماية الإسلام والدفاع عنه وتظهر تضحياتهم الكبرى في سبيل ذلك كما يكشف عن طبيعة القوى التي تناهضهم وتناصبهم العداء ومدى بعدها عن الإسلام وتبين أن جوهر الصراع بينهم وبين خصومهم ليس ذاتياً وليس مصلحياً وإنما يعود من جهة إلى حرص الأئمة على إلزام كل حاكم بالأمانة والصدق في تطبيق مبادئ الإسلام في سياساته ويعود من جهة أخرى إلى تناقض المصلحة الشخصية والعائلية للحاكمين مع أهداف أهل البيت عليه السلام في حماية الأمة من الاستغلال وحماية الشريعة من التحريف، فعاشوراء تمثل إدانة الحاكم المنحرفة في أي عهد وفي أي زمان.
ومن هنا نستطيع القول إن ثورة الإمام الحسين عليه السلام واستمرارها في وجدان الأمة عامل توحيد وحركة إصلاحية تحتاجها الأمة خصوصاً في هذه المرحلة التي تغلغل الفساد فيها وضاعت المفاهيم والقيم الرسالية عند السواد الأعظم من الناس وأصبحوا عبيد الشهوة وأدوات بيد حكام الجور والانحراف.
لذلك نتوجه بالدعوة إلى كل الحركات الإصلاحية في الأمة والقيمين على هدايتها وتصحيح انحرافها إلى إحياء ذكرى الحسين عليه السلام وثورته وأهدافه في أذهان الأمة بكل فاعلية لأنها ثورة من أجل التوحيد تحت أهداف الإسلام المحمدي الأصيل، ولا يمكن أن تكون عامل تفرقة بين أبناء الأمة الذين يريدون الإسلام عزيزاً ومنزهاً عن أي تحريف في قيمه ومبادئه لأن الإمام الحسين عليه السلام ثار من أجل الإسلام واستشهد من أجل الإسلام ويجب أن تُحيا ذكراه من أجل الإسلام بكل موضوعية ومنهجية ورسالية.