السيد عباس نور الدين
شرع الله سبحانه الصلاة لإخراج الإنسان من سجن الخبائث والأوهام وإيصاله إلى أعلى عليين حيث لقاؤه وقربه، فالصلاة صلة العبد بالمعبود ومعراجه إلى جواره، ولو أدى العبد صلاة واحدة بحقها وصلته إلى غاية الغايات وعبرت به كل المراحل والطرقات.
وليس هذا الكلام سوى نزر يسير من حقائق هذه العبادة الجامعة التي يقول عنها الإمام قدس سره:
"إن الصلاة بحسب الظاهر هي الذكر الكبير والجامع والثناء بالاسم الأعظم المستجمع لجميع الشؤون الإلهية.." (الآداب: 268).
"إن الكمال المطلق، وهو الوصول إلى فناء الله والاتصال بالبحر الوجودي اللامتناهي وشهود جمال الأزل والاستغراق في بحر النور المطلق يحصل في الصلاة" (ن.م).
ويُفهم من هذا الكلام أن ما نقوم به نحن تحت عنوان الصلاة إذا وافق ظاهره ظاهر الشريعة، فليس إلا قشر الصلاة. وإن للصلاة آداباً باطنية وشروطاً قلبية بمراعاتها والقيام بها يدخل المصلي في زمرة المصلين الذين قال الحق سبحانه عنهم:
(إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين) (المعارج: 19).
إننا نصلي منذ سنوات، وقد رأينا آلاف الركعات، ومع ذلك نجد أنفسنا نجزع عند أي حادثة أو وقوع ألم أو نقصان، ونرى الدنيا أمامنا سوداء والحياة قاتمة ونسخط على أوضاعنا وظروفنا. حتى إذا كنا في هذه الأحوال وجاءنا الخير نسينا كل ما حولنا وبدأنا نسحب حسابات الربح والخسارة! فأين هي هذه الآثار الطيبة للصلاة التي ذكرها القرآن المجيد. وهل أن نظام الأسباب الكونية الذي أبدعه الخالق الحكيم ليس تاماً أو دائماً.
إن قوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) يفيد بأن للصلاة حقيقة رادعة ناهية، تمنع المصلي من القيام بالمنكرات الاجتماعية والفردية، وتجعل في نفسه التقوى الحاجزة، فأين هذا وأين نحن الذين نجد صعوبة بالغة في اجتناب الكثير من المحرمات التي يستسهلها الناس كالغيبة والبهتان والقذف والتوهين والكذب. وهي أشرّ الخبائث وأنكر المنكرات. وما يجرؤنا عليها هو شيوعها وسهولة تناولها.
فلو كنا نصلي الصلاة التي ذكرها الحق سبحانه في كتابه لوجدنا في أنفسنا حاجزاً مانعاً من التجرؤ على مثل هذه المعاصي التي يهتز لواحدة منها عرش الرحمن وتتزلزل الأرض من تحتنا طلباً لهلاكنا لولا أن أمسكها الله!
فيقول قائل مغترّ: ولكنني أصلي كما هو مشروح في الرسالة العملية للمرجع الأعلى. وهو لا يعلم أن ما يقوم به هو صورة الصلاة وظاهرها، وبقي عليه أن يؤدي حقها ويراعي باطنها، ولهذا كان كتاب الآداب المعنوية للصلاة لسيد العارفين وأستاذ الفقهاء ومحيي الشريعة والدين الإمام الخميني (سلام الله عليه).
ومن خلال أكثر من أربعين لقاءً على صفحات هذه المجلة كنا نحاول أن نبين ما أراده الإمام في هذا المجال. وقد ناهزت الأعداد التي تحدثنا فيها عن آداب الصلاة المعنوية السبعة والأربعين وما زلنا في مقدمات الصلاة. كل ذلك لعظمة الموقف وعمق البيان وقداسة المقام.
وفي الأحاديث ما يوقظ أولي الألباب ويشير إلى هذه العظمة، فقد روي عن الإمام علي عليه السلام أنه كان إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل ويتلون، فيقال له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول عليه السلام: "جاء وقت الصلاة وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها".
فقد تكون رعاية المقدمات طريقاً لتحضير النفس للورود إلى محضر الله في الصلاة. وقد تكون ناتجة عن إدراك عظمة هذا المحضر. ومن أراد إدراك عظمة هذا المحضر. ومن أراد أن يوفق لهذا المحضر فليهيء نفسه للصلاة، برعاية الآداب المعنوية لمقدماتها. ومنها الآذان والإقامة التي ورد بشأنها عشرات الأحاديث والروايات الشريفة.
وقد ذكرنا فيما سبق جملة من هذه الآداب التي تعرض لها الإمام حيث قال:
1 - التكبير: "إذا أعلن السالك إلى الله بالتكبير عظمة الحق تعالى عن التوصيف" والله أكير من أن يوصف.
2 - الشهادة: "وبالشهادة بالألوهية قصر التوصيف والتحميد بل كل تأثير بالحق، وأسقط نفسه عن اللياقة للقيام بالأمر" (أشهد أن لا إله إلا الله).
3 - الشهادة بالرسالة والولاية: اختار الرفيق والمصاحب وتمسك بمقام الخلافة والولاية المقدسة، كما قيل الرفيق ثم الطريق".
4 - "فلا بد له أن يهيء القوى الملكية والملكوتية بصراحة اللهجة للصلاة ويعلن لها إعلان الحضور بقوله: حي على الصلاة".
فالآذان والإقامة هما تحضير واستعداد لجميع قوى النفس للورد إلى مقام الصلاة وذلك أولاً من خلال الاعتراف بالعجز عن القيام بالصلاة التي هي ثناء جامع وتوصيف للحق سبحانه قال الله تعالى: "وأقم الصلاة لذكري". والصلاة تبدأ بالتكبير، كما أن الآذان يبدأ بالتكبير الذي يعني في الحقيقة الإعلان عن العجز عن وصف الحق سبحانه، فالله أكبر تعني كما في الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السلام: الله أكبر من أن يوصف. وإلى هذه الحقيقة إشارة في الدعاء عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "ولم تجعل طريقاً إلى معرفتك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك..." وهذا هو السر الكامن في التكبير الذي هو إعلان الدخول إلى ذكر الله وتوصيفه. وإنما كان ذلك لأن الحق عز وجل جامع كل جمالة وكمال وتأثير وفعل ووجود، فلا إله غيره، لأن الوجود له دون سواه. والشهادة بالألوهية - كما مر - اعتراف بانحصار الوجود والكمال والفعل به سبحانه وتعالى عما يصفون.
وقد أعد الله لنا وسائط رحمته وسبل فيضه وهم خلفاؤه وأولياؤه، فالشهادة بالرسالة والولاية هي التمسك بولايتهم وهدايتهم، وهم الذين يأخذون بأيدينا للورود إلى محضر الحق وينطقون ألستنا بالثناء عليه، وبهم عرف الله وبهم عبد الله: "سبحنا وسبحت الملائكة، وكبرنا وكبّرت الملائكة...".
وبعد هذه المقدمات على السالك إلى الله أن يعلن بصراحة عن نيته بالحضور فيقول موقظاً جميع قواه الظاهرية والباطنية حي على الصلاة يقول الإمام صلى الله عليه وآله وسلم:
"وتكراره للتنبه التام والإيقاظ الكامل، أو أن أحدهما لقوى المملكة الداخلية والآخر لقوى المملكة الخارجية لأنهما سلاك هذا السفر مع الإنسان".
وينبغي أن يلتفت السالك إلى أدب مهم في هذه الدعوة وهو "أن يفهم قلبه وقواه، ويفهم باطن قلبه اقتراب الحضور حتى يتهيأ له، ويراقب آدابه الصورية والمعنوية كمال المراقبة".
"ثم يعلن سر الصلاة ونتيجتها بقوله "حي على الفلاح.. وحي على خير العمل" كي يوقظ الفطرة". فإن الفطرة هي الموجه الأول للإنسان، وهي التي تسوقه نحو سعادته الحقيقية. ولكن المشكلة هي أن هذه الفطرة تبقى محجوبة عن مرادها الحقيقي من خلال تعلق صاحبها بالسعادات الوهمية حتى تفقد دورها ومؤثريتها، وإذا استمر الإنسان في مثل هذه التعلقات الوهمية، فإن نور الفطرة ينطفئ كلياً، ولا يبقى هناك أي مجال للعودة.
ولكن المصلي في الآذان يقوم بإيقاظ الفطرة من خلال تلقينها بأن الخير والصلاح والسعادة المطلقة التي تطلبينها موجودة في الصلاة، وحيث أن فطرة جميع البشر عاشقة لهذا الكمال المطلق وتطلب الراحة وحقيقة السعادة، فإن المصلي عندما يذوق جزءاً من حلاوة الصلاة سيدرك أن رأسمال جميع السعادات موجود في الصلاة.
إن هذا الإعلان المتوجه إلى الفطرة هو نوع من الدعوة لليقظة وتذوق حلاوة المناجاة والذكر. وما دامت فطرة الإنسان نائمة، فلن ينفعه هذا الذكر الأكبر ولن يذوق حلاوته، يقول الإمام قدس سره:
"فالصلاة هي الفلاح المطلق وهي خير الأعمال، على السالك أنيفهم القلب هذه اللطيفة الإلهية بالتكرار والتذكر التام، ويوقظ الفطرة، فإذا وردت هذه الطيفة في القلب، فالفطرة من حيث أنها طالبة للكمال والسعادة تهتم بها وتحافظ عليها وتراقبها" (الآداب: 268).
ثم يأتي دور الورود والحضور، فيعلن السالك للجميع "قد قامت الصلاة"، وعليه أن يرى نفسه في حضرة مالك الملوك في العوالم الوجودية وسلطان السلاطين والعظيم المطلق ويفهم قلبه الأخطار التي في الحضرة، ويرجع الكل إلى القصور والتقصير الإمكاني، ويرد المحضر بكمال الانفعال والخجل منعدم القيام بالأمر. ويفد على الكريم بقدمي الخوف والرجاء ولا يرى لنفسه زاداً ولا راحلة ويرى قلبه خالياً من السلامة، ولا يحسب عمله من الحسنات، بل لا يعده شيئاً.. فإذا استحكمت هذه الحال في القلب، فالمرجو أن يقع مورداً للعناية:
وفدت على الكريم بغير زاد
من الحسنات والقلب السليم
وحمل الزاد أقبح كل شيء
إذا كان الوفود على الكريم