جولة في مراحل الفقه
آية الله محمد إبراهيم جناتي/ ترجمة الشيخ أحمد وهبي
تبدأ هذه المرحلة من زمان المرحوم ابن إدريس الحلي (555 - 598) وتستمر حتى زمان المرحوم المحقق الحلي مؤلف كتاب شرائع الإسلام في أحكام الحلال والحرام. المتوفى سنة (680 - 676هـ) وقد طالت في مجموعها أكثر من مائة سنة.
الأسلوب العلمي للفقهاء في هذه المرحلة كان متأثراً بأسلوب ابن إدريس، وكان أتباع هذا الأسلوب في الفقه مورد قبول الجميع. والفقهاء عند مواجهة المسائل التي لم يكن حكمها من الأحكام الضرورية والقطعية كانوا يسعون لعرض المسائل الشرعة والفقهية مع الاستلالات القوية. بحيث أنهم كانوا يذكرون المسألة، ثم يندفعون لطرح دليلها ومستندها. وإذا كان في المسألة اختلاف ما، كانوا يحضرون الأقوال والأدلة المختلفة، ويرجحون إحدى النظريات بذكر الدليل. وإذا كانت الأقوال متعارضة حول المسألة، ولم يكن هناك ترجيح لأحد الأطرف. كانوا يحكمون إما بالتخيير أو التوقف.
كان الفقيه المجدد المرحوم ابن إدريس الذي بث حياة جديدة في الفقه، في طليعة علماء هذه المرحلة بل حامل لواء هذا النحو من التفكير فقد اندفع نحو البحث الاستدلالي في الفروع الفقهية بشكل لم يسبق له نظير وتبعه الكثير من المتأخرين عنه. لقد ألف كتباً فقهية كثيرة على أساس أسلوبه، ومن جملتها كتاب "السرائر" الذي يحتوي على كل أبواب الفقه، ويفيض بالنكات الاستدلالية الدقيقة في استنباط المسائل الشرعية من أدلتها الأربعة الكتاب والسنة، والإجماع والعقل.
لا بد من التوضيح أن ابن إدريس كان أول شخص فتح باب الاعتراض على الشيخ الطوسي. وهو بعد تأسفه على أهل زمانه في كتابه المذكور يطرح بحثه ويقول: هذا الكتاب بنظري هو أفضل تأليف يوضع في هذا الفن، وهذا الأسلوب هو أحسن طريقة في البيان، وأصدق طريق لطرح البحث وتقديم الدليل، إذ لا سبيل فيه أبداً للروايات والأخبار الضعيفة. لقد بنيت تحقيقي في هذا الكتاب على أساس سبك جديد فكشف الأحكام يكون ممكناً بأحد الطرق التالية فقط: إما عن طريق كتاب الله أو سنة النبي المتواترة، أو إجماع واتفاق العلماء، أو بدليل العقل. فمع عدم إمكان الوصول إلى الحكم الشرعي من الطرق الثلاثة أولى، عندها يعتمد المحققون في المسائل الشرعية على دليل العقل، ويتعرضون من هذا الطريق على جميع الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية. إذاً يجب الاعتماد عليه، وكل من أنكر حجيته فقد ضل وسار في الظلمات، وقال بما هو خارج عن حدود المذهب.
ولكن طريقة ابن إدريس لم تكن مقبولة عند فقهاء زمانه، بل أغضبتهم ولذلك قالوا في حقه: "هو رئيس فقهاء الحلة، ويتقن علوماً كثيرة، ولديه تأليفات وتصنيفات كثيرة، ولكنه بشكل عام أعرض عن أخبار وروايات الأئمة(عليهم السلام)".
ولكن الإنصاف أن ابن إدريس لا يستحق هذا الحكم، لأنه لم يغمض عينه أبداً عن الأخبار والروايات المعتبرة والمعتمدة، بل كما صرح هو نفسه أعرض عن الأحاديث الضعيفة فقط وعمل بالروايات الموثقة، وجاء بدليل إعراضه أيضاً في عبارته المذكورة.
على كل حال، بظهور ابن إدريس انتهت مرحلة التمسك المطلق بنصوص الروايات. وكما يظهر من كلامه لقد دعا هو والفقهاء للاستناد إلى الدليل العقلي أيضاً، وهكذا كان فتحت أبواب الاستدلال في الأبحاث الفقهية. من المناسب هنا أن ننقل كلام الشهيد آية الله الصدر في مجال المقايسة بين كتاب السرائر لابن إدريس، والمبسوط للشيخ الطوسي: يقول الشهيد الصدر:
* من مطالعة كتاب السرائر ومقايسته بالمبسوط نصل إلى النتائج التالية:
1 - أن كتاب المبسوط يبحث في دور العناصر الأصلية للاستنباط في البحث الفقهي، والارتباط بينهما. ولكن كتاب السرائر طرح هذا البحث بشكل أوسع وكمثال على ذلك، ابن إدريس في باب "أحكام المياه" تعرض لثلاث قواعد أصولية وربط بحثه الفقهي بها، في حال أن هذه القواعد لا ترى في كتاب المبسوط للشيخ، وإن كانت هذه الأصول طرحت كنظرية كلية في الكتب الأصولية قبل ابن إدريس.
2 - الاستدلال الفقهي في كتاب السرائر أوسع من كتاب المبسوط، فابن إدريس ذكر المسائل التي يختلف مع الشيخ فيها، وطرحها مع استدلالاتها الكثيرة من باب المثال: مسألة جاءت في كتاب المبسوط في سطر واحد، وفي السرائر استوعبت صفحة كاملة، ومن هذا القبيل يمكن ذكر المسألة التالية:
إذا كان الماء المتنجس أقل من كر ووصل بواسطة مقدار متنجس آخر إلى حد الكرية فهل هو طاهر أم لا؟ الشيخ في المبسوط حكم ببقاء النجاسة في الماء المزبور، ولم يتجاوز في توضيحه عن جملة واحدة، في حال أن ابن إدريس بحث في المسألة بشكل واسع وقال في الخاتمة: لقد ألفنا في هذا الموضوع رسالة منفردة من عشر أوراق، وذكرنا دليلنا وأجبنا على الإشكالات وتمسكنا بأدلة وشواهد من الآيات والروايات.
نحن نرى من ناحية مقدار الاختلاف بين ابن إدريس والشيخ الطوسي، ومن ناحية أخرى نرى همة ابن إدريس العالية ففي كل مسألة يستعرض الأدلة لتأييد رأي الشيخ ثم يقوم بردها وإبطالها واحداً بعد الآخر. في حال أنه هو الذي ابتدع هذه الأدلة وافترضها، ثم أبطلها حتى لا يبقى مجال للترديد في صحة رأيه، أو أن هذه الأدلة تعكس الفكر التقليدي الذي كان حاكماً على ذك الزمان، الذي أثارته نظريات ابن إدريس، الجديدة وقام للدفاع عن آراء الشيخ الطوسي ومواجهة أفكار ابن إدريس.
نرى أن ابن إدريس جاء بكل أدلة واحتجاجات المخالفين ثم ردها، وهذا يعني أن الحوزة العلمية التي دعاها للمواجهة كانت تقوم بردة فعل مقابل نظرياته. ويفهم أيضاً من كتاب السرائر أن ابن إدريس كان يقف في مواجهة معاصريه بآرائه ويباحثهم يوناقشهم، ولم يجد نفسه في مجال التأليف والتصنيف، ومن الطبيعي في هذه الصورة أن تحدث أفكاره رد فعل في المجتمع برز بتأييد الكثيرين الشيخ الطوسي. إحدى هذه المواجهات يذكرها ابن إدريس نفسه في باب الزراعة من كتاب السرائر، نقل في البداية نظرية فقهية ثم أشكل عليها وقال: هذا القول هو من السيد العلوي ابن زهرة، ولقد قابلته مرة، ثم تكاتبنا وبينت له أخطاءه في المكاتبات، ولكن المرحوم كان يأتي بأعذار وأدلة لم يكن أي منها واضحاً.
ونشاهد كذلك في أبحاث ابن إدريس كم كان يتألم من المقلدين الذين يتعبدون بآراء الشيخ وكمثال على ذلك، هناك مسألة في الفقه يقول: "إذا مات الكافر في بئر فكم يجب أن ننزح منه كي يطهر"؟.
يقول ابن إدريس في هذا المجال إن جميع الفقهاء متفقون على وجوب نزح البئر كله إذا لمس الكافر ماء البئر. وبناءً على ذلك عندما يموت الكافر في ذلك الماء يكون الحكم كذلك استدلالاً بالأولوية. وبما أن الاستدلال بالأولوية يعتبر ظاهرة عقلية جريئة نسبة للمستوى العليم لزمان ابن إدريس، يتابع كلامه فيقول: "عندما يسمع أي شخص هذا الكلام يستبعده ويفر منه ويقول: من قال بهذا وذكره في كتابه، ومن أشار إلى هذا الأمر من أهل الفن الذين هم المرجع لمسائل كهذه".
نرى أن ابن إدريس حاصر مقلدي الشيخ بمرونة خاصة بحيث أنه يسعى لتأويل كلام الشيخ لإقناعهم بأن الشيخ قال بهذا وأفتى به. مثلاً في مسألة "متمم ماء الكر" التي ذكرت سابقاً وحكم ابن إدريس بطهارته، ويقول: الشيخ أبو جعفر الطوسي أيضاً الذي يستدل على خلاف قولنا ويتم تقليده في هذه المسألة وصار كلامه دليلاً للمقلدين هو نفسه يقوي في كثير من أقواله القول بالطهارة ويفتي به. وأنا سأبين إن شاء الله أنه إذا نظر في كلام الشيخ وبفكر خالٍ من التحكم، يظهر من كلامه أنه يقول بهذه المسألة ويعتقد مثلنا بطهارة الماء المزبور.
3 - "كتاب السرائر" من الناحية التريخية معاصر لحدِّ ما لكتاب "الغنية" لابن زهرة الذي هو دراسة مستقلة في علم الأصول. لأن ابن زهرة توفي قبل ابن إدريس بمدة 19 سنة، عندما نقرأ أصول ابن زهرة ونقايسه مع كتاب السرائر، نرى ظاهرة مشتركة بين هذين الكتابين، فهما يمتازان من تأليفات عصر تقليد الشيخ المطلق، وهذه الظاهرة المشتركة هي الاعتراض على آراء الشيخ والاعتقاد بنظريات مخالفة لفكره الفقهي والأصولي. كما رأينا في كتاب السرائر فابن إدريس يرد على استدلالات الشيخ الفقهية، ونرى ابن زهرة أيضاً في كتاب "الغنية" يقوم بمناقشة أدلة الشيخ الأصولية في كتاب "عدة الأصول" ويستدل على النظريات المخالفة للشيخ، ويطرح أحياناً مشكلات أصولية جديدة لم تكن مطروحة قبل كتاب "الغنية".
هذه المسائل تشير إلى أن الفكر العلمي في ذلك الزمان بجناحيه الأصولي والفقهي قد تطور وتكامل إلى حدِّ وجد الصلاحية لمواجهة أفكار وآراء الشيخ ووضعها تحت السؤال إلى حد ما.
يتابع الأستاذ الشهيد ويقول:
"هذا العلم الذي ظهر في زمان ابن إدريس، تطور أكثر على طول الأجيال، التالية، وازدادت ذخائره العلمية، وظهر في تلك المدة علماء نوابغ وعملوا على التأليف والتصنيف والابتكار والإبداع في مجال علم الأصول والفقه..
ومن شخصيات هذه المرحلة نجم الدين المحقق الحلي (600 - 676هـ) الذي عمل على التحقيق في المباني الفقهية، واهتم في كتابه "المعتبر" بتحكم قواعد الفقه الثابتة، وكان ناجحاً في هذا الميدان.