السيد عباس نور الدين
في الأذان والإقامة كما في الصلاة، يشهد المصلّي أن لا إله إلاّ الله، وبهذه الشهادة يعلن عن حقيقة سارية في كلّ الوجود، بل هي حقيقة الحقائق، ويهيئ نفسه للدخول إلى ساحة القدس ومحفل الملائكة والعلماء، قال الله تعالى: (شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله غلاّ هو العزيز الحكيم).
فالشاهدون على هذه الحقيقة هم الذات الإلهية في مقام الاسم الأعظم وجمع الأسماء، حيث يكون المقام المذكور. برهاناً على الوحدانية، لانحصار الكمال والوجود والتأثير به سبحانه. والملائكة الذين لم يحتجبوا عن شهود الحقيقة، والعلماء الربانيون.
وأنت إذ أعلنت الشهادة بالتوحيد، عليك أن تصدّق القول: كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. فلهذه الشهادة حقيقة ذات مراتب. وتنبع هذه الحقيقة من معرفة معاني التوحيد. وإذا تمّت هذه المعرفة بالإدراك العقلي، يجب رفعها إلى مستوى الإدراك القلبي ليذوق المصلّي حلاوة العبادة، وتصبح شهادته شهادة حقيقية.
ونحن قد علمنا أنّ الإدراك عند الإنسان هي العقل. والقلب بصورة أساسية. أمّا الحسّ فإنّه وسيلة الاتصال بعالم الطبيعة، وليس وسيلة للإدراك. والعقل يدرك المفاهيم الكلية. وبهذا الإدراك يصبح الإنسان مستعداً للاتصال بعالم ما فوق الطبيعة، الذي يكون بالنسبة له بداية عالم الغيب. إلاّ أنّ هذا الإدراك، ما لم يتحوّل إلى إيمان، لا ينفع صاحبه. بل قد يتصرّف خلافه ولا يحصل منه المطلوب. لهذا ينبغي أن يدخل إلى قلبه، ويصبح القلب معتقداً به، ويشفعه بالعمل والمجاهدة ليسري إلى أفعاله، فينال منه الكمال المطلوب. قال الله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب).
وما لم يتحقّق هذا الإيمان في مورد الشهادة بالألوهية ولو في أدنى مراتبه، فإنّها لا تكون سوى لقلقة لسان. يقول الإمام قدس سره:
"فعلى السالك أن يجعل الشهادة الصورية على قصر المعبودية للحق تعالى جلّت عظمته منطبقة على الشهادة القلبية الباطنية، ويعلم أنّه إن كان في القلب معبود سواه فهو منافق في هذه الشهادة" (الآداب/ص 253).
وللشهادة بالألوهية معنيان، الأول: حصر العبودية لله سبحانه بمعنى لا معبود سواه. والثاني: أن لا مؤثر في الوجود غيره. والاثنان نابعان من معرفة الألوهية. وإنّما تحصل الاستفادة من هذه الشهادة عندما تنبع من القلب. وعلامة ذلك أن يعمل بما تقتضيه. فبالنسبة للشهادة بالمعنى الأول يقول الإمام قدس سره:
"فلا بدّ له أن يوصل الشهادة بالألوهية إلى القلب بكلّ رياضة ويكسر الأصنام الصغيرة والكبيرة المنحوتة بيد تصرف الشيطان والنفس الأمّارة في كعبة القلب، ويحطّمها حتّى يصير لائقاً لحضور حضرة القدس.. وما دامت أصنام حبّ الدنيا والشؤون الدنيوية موجودة في كعبة القلب، لا يجد السالك طريقاً إلى المقصد. فالشهادة بالألوهية للإعلان للقوى الملكية والملكوتية أن تجعل المعبودات الباطلة والمقاصد المعوجة تحت قدمها كي تتمكّن من العروج إلى معراج القرب" (الآداب/ص 254).
وبمعرفة منافيات الشهادة بالألوهية، يمكن للمصلّي أن يعرف إذا كان من أهل الشهادة الحقة. وهذه المنافيات هي حبّ الدنيا ومتعلقاتها الذي يعتبره الإمام نوعاً من العبادة، بل هو عبادة. لأنّ العبادة تقتضي توجه القلب إلى المعبود والتعلّق به. وإذا كان حب الدنيا موجوداً في القلب فهو يعني أن الدنيا صارت معبودة لصاحبه. وعلى المصلّي أن يتعرّف إلى هذا الحبّ من خلال آثاره وعلاماته. وتأتي الامتحانات الكثيرة لتكشف عن باطنه.
"وإذا كان المقصود من قصر الألوهية، الألوهية الفعليّة التي هي عبارة أخرى عن التصرّف والتدبير والتأثير، فيكون معنى الشهادة أنّي أشهد أن لا متصرّف في دار التحقّق، ولا مؤثّر في الغيب والشهادة إلاّ ذات الحقّ المقدّسة (جلّ وعلا)" (الآداب /254).
وعلى كلّ حال ينبغي للمصلّي أن يثبت هذا المطلب من خلال البراهين الحكيمة ويتفكّر فيه دائماً، ويتوجّه إليه حين الأذان وفي الصلاة حتّى يدخل إلى قلبه، يقول الإمام قدس سره:
"فلا بدّ للسالك أن يُحكم أولاً بالبرهان الحكمي حقيقة لا مؤثر في الوجود إلاّ الله. ولا يفرّ من المعارف الإلهية التي هي غاية بعثة الأنبياء" (الآداب).
فمن المؤسف حقاً أنّ البعض يدخل مثل هذا النوع من المعارف في مجال العلوم العالية التي لا يجوز إلاّ لأهل الاختصاص التعرّف إليها. وهو لا يعلم أنّها غاية بعثة الأنبياء عليهم السلام، ويكتفي ببيان المعنى الساذج للتوحيد. والله سبحانه يقول: (هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا إنّما هو إله واحد وليذّكر أولو الألباب).
ولم يكن زعمهم هذا ناشئاً إلاّ عن أنهّم رأوا غاية أخرى للرسالة، وقيمة أعلى للعبادة! وهذا ظن الذين كفروا، فذرهم في طغيانهم يعمهون.
"فإذا وصل بقدم التفكّر والبرهان إلى هذه اللطيفة الإلهية التي هي منبع المعارف الإلهية، وباب أبواب الحقائق الغيبية، عليه أن يؤنس القلب بها بقدم التذكّر والرياضة حتّى يؤمن بها".
واللافت جداً أنّ الإمام يعقب هذا الكلام بقوله:
"وهذا الإيمان القلبي هو أوّل مرتبة لصدق مقالته".
فما هي علامته، وما هي منافياته؟
* يقول الإمام قدس سره:
"وإذا كان في قلب السالك اعتماد على موجود من الموجودات واطمئنان لأحد من العباد فقلبه معتل (عليل) وشهادته زور ومختلقة".
أمّا علامته فهي كما يقول الإمام قدس سره:
"وعلامته الانقطاع إلى الحق وغضّ بصر الطمع والرجاء عن جميع الموجودات. ونتيجة التوحيد الفعلي الذي هو من أجلّ مقامات أهل المعرفة".
وفي الكافي بإسناده عن علي بن الحسين عليهما السلام قال:
"رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عما في أيدي الناس ومن لم يرج الناس في شيء، وردّ أمره إلى الله تعالى في جميع أموره، استجاب الله تعالى له في كلّ شيء".
يقول الإمام قدس سره:
"فإذا قصر السالك جميع التأثيرات بالحق، وغمض عين الطمع عن جميع الموجودات سوى الذات المقدّسة، يكون لائقاً للمحضر المقدّس، بل يكون قلبه متوجهاً إلى ذلك المحضر فطرة وذاتاً.." (الآداب المعنوية / ص 254).