مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

من وصية الإمام لابنه السيد أحمد: الدعاء



السيد عباس نور الدين


بني، إنّ الأدعية والمناجات التي وصلتنا عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) هي أعظم أدلة إلى معرفة الله (جلّ وعلا)، وأسمى مفاتيح العبودية، وأرفع رابطة بين الحق والخلق. كما أنّها تشتمل في طياتها على المعارف الإلهية، وتمثل أيضاً وسيلة ابتكرها أهل بيت الوحي للأنس بالله جلت عظمته، فضلاً عن أنّها تمثل نموذجاً لحال أصحاب القلوب وأرباب السلوك.

يقول الله سبحانه في كتابه الكريم: (قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم..) الرابطة الوحيدة بين المخلوق والخالق هي رابطة العبودية. وعندما يقطع المخلوق هذه الرابطة فإنّه يصبح هيناً على الله، لا يعبؤ به ولا يبالي أين يكون. وفي الحقيقة أنّ قطع هذه العلاقة من جانب الإنسان يمثل ابتعاداً منه عن كماله وسعادته الحقيقية التي ينبغي أن ينالها في جوار الله والقرب منه عز وجل.
والعبودية في جوهرها عبارة عن الاعتراف بالعجز التام والفقر المطلق إلى المعبود سبحانه. إنّها ذلك المقام الذي يرى المخلوق فيه نفسه لا تملك شيئاً من وجود أو كمال وجود. وعندها، ونتيجة الفطرة المغروزة في أعماقه، سيتوجه إلى خالقه معترفاً مذعناً متذللاً خاشعاً. وهذا هو الدعاء.
الدعاء هو التعبير الوحيد عن العبودية الحقّة. وله أشكال كثيرة تظهر في العبادات المختلفة كالصلاة والصوم والحج وغيرها. ولهذا فسر الدعاء بالعبادة.
المصلي هو الذي يتوجه إلى ربه بالتكبير والقيام وقراءة القرآن والذكر والركوع والسجود ليعلن له في كل حركة أو كلام أنه عبد ذليل. وكذلك الصيام. ففي كل عبادة ينبغي أن يكون هذا التوجه وإلا فقدت العبادة دورها الحقيقي في تحقيق العبودية.

ويتجلى الدعاء بصورة مستقلة أخرى من خلال الأدعية الواردة في الكتب المعتبرة. والتي تصور لنا كيفية التوجه إلى الله، وتعلّمنا آداب الحضور في محضر المعبود (عزّ سلطانه).

في هذه الأدعية التي صدرت عن سادة العرفاء بالله (عليهم السلام)، نستدل على معرفة الله (جل وعلا)، ونجد الطريق واسعاً معبّداً لسلوك هذا السبيل. ويتحوّل الدعاء إلى باب عظيم نرد من خلاله إلى ساحة المعرفة التي هي غاية الغايات. ويتجلى لنا الحق بأسمائه وصفاته، ونلمح من بين آفاقه أنوار الرحمة واللطف، وتلوح لنا آثار القهر والجلال.
وإنّ من أعظم مفاخر الشيعة في العالم هذه الأدعية التي ابتكرها أئمتهم الأطهار(عليهم السلام). بحيث لا تجد لها نظيراً في كلّ الأديان والمذاهب. وهي تحكي عن حالاتهم ومقاماتهم العظيمة، التي هي مقام الإنسان الكامل الواصل.

وعندما يريد العبد أن يتوجه إلى معبوده بالدعاء، فإنّه ينظر إلى فقره وينطلق من حاجاته. ولأنّ أكثر الناس لا يعرفون مدى فقرهم وما هي حاجاتهم الحقيقية فقد يطلبون من الله ما لا ينبغي، ولأنّ الله تعالى يحبهم إذا دعوه، فإنّه لا يستجيب لهم لأنّهم طلبوا ما لا يصلحهم. وتكون النتيجة أن يتركوا الدعاء بسبب جهلهم.
ذاك الذي يطلب ولداً، يظنّ أنّ هذا الولد سيكون سبباً لسعادته. وهذا الذي يريد هذا المال يتصور أنّه سيكون حلاً لمشاكله. وهما يستغرقان في الدعاء ولا يكون في الإجابة ما يصلحهما.
إنّ هذا المسكين الذي يلح على الله تعالى أن يشفيه من علته، لا يدري أن المرض يكون أحياناً خيراً له في آخرته. فتراه لا يطلب من الله سبحانه سوى الشفاء، وهو يصر عليه متناسياً لعلاقته بربه. وقد جعل الله في الدعاء وسيلة لنفسه.

ولكن إقرأوا هذا الدعاء الذي يمثل نموذج العابد الحقيقي ومظهر العبودية الحقة الذي ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)حيث يقول: "الله لك الحمد على ما لم أزل أتصرف فيه من سلامة بدني ولك الحمد على ما أحدثت بي من علة في جسدي.. فما أدري، يا إلهي، أي الحالين أحق بالشكر لك؟! وأي الوقتين أولى بالحمد لك؟!.."
فإنّكم ستجدون معاني العبودية التي فني فيها في إرادة معبوده. ولم يعد لنفسه، ولا لحاجاته المحدودة، وجود بين يدي الله تعالى.
إنّ الأدعية التي وصلتنا عن الأئمة الأطهار عليه السلام تعلّمنا كيف نكون عبيداً لله سبحانه. وتعرّفنا إلى حاجاتنا الواقعية، وتكشف لنا عن الكثير من الحاجات الوهمية التي كنا نراها كلّ شيء في حياتنا. فهي طريق العبودية التي تتضمن آداب الحضور في محضر المعبود (عزّ وجل).
عندما يدعوك السيد العظيم إلى محضره، فاعرف أنّه قد هيأ لك من النعم والكرامات ما يليق بشأنه. فلا تسأله ما يليق بشأنه، لأنّك تكون قد أسأت الأدب في محضره.

وأنت إذا طلبت شيئاً من حاجات الدنيا فليكن ذلك امتثالاً لأمره سبحانه، حيث يحب أن يرى الاحتياج إليه في عباده. ولا يكن ذلك غاية لآمالك وحاجاتك. لأنّك تكون بذلك قد جعلت نفسك رخيصة. والإمام الحسين(عليه السلام) يقول: "إنّ الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها".

وخلاصة الكلام، أنّ للإنسان نوعين من الحاجات الحقيقية. حاجات دنيوية لإكمال معاشه، وحاجات معنوية لآخرته وعيشه الحقيقي، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "لا عيش إلاّ عيش الآخرة". والله سبحانه بمقتضى الحديث النبوي الشريف "قد ضمن لنا الدنيا وأمرنا بطلب الآخرة". ولكنه (عز وجل) يحجب عنا الرزق أحياناً، لا لأجل أن يشقينا بطلبه، بل لأجل أن نرجع إليه ونتذكره، سبحانه وتعالى عما يصفون.
وليست الحاجات الأخروية إلاّ حاجة واحدة، وهي تحقّق العبودية التامة لله والوصول إلى لقائه. ومن كان في هذه الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا.
إنّ الحاجات الدنيوية قد تزاحم الحاجات الأخروية وتكون المصلحة في عدم تلبيتها: "فلعلّ الذي أبطأ عني هو خير لي، لعلمك بعاقبة الأمور". لأنّ الحاجات الأخروية هي جوهر كيان الإنسان وعلة وجوده.
... "فلا تصدنك وساوس الجاهلين عن التمسك أو الأنس بها. إنّنا لو أمضينا أعمارنا بتمامها نقدم الشكر على أنّ هؤلاء – الأحرار والواصلين إلى الحق – هم أئمتنا ومرشدونا لما وفينا" (تجليات رحمانية).

اقرأوا هذا الدعاء عن الإمام زين العابدين عليه السلام في الصحيفة السجادية وتدبروا في معانيه؛ فقد كان يقول، إذا قتر عليه الرزق:
"اللهم إنّك ابتليتنا في أرزاقنا بسوء الظن، وفي آجالنا بطول الأمل. حتّى التمسنا أرزاقنا من عند المرزوقين، وطمعنا بآمالنا في أعمار المعمرين. فصلّ علي محمد وآله، وهب لنا يقيناً صادقاً تكفينا به من مؤونة الطلب، وألهمنا ثقة خالصة تعفينا بها من شدة النصب. واجعل ما صرحت به من عدتك في وحيك، وأتبعته من قسمك في كتابك قاطعاً لاهتمامنا بالرزق الذي تكفلت به وحسماً للاشتغال بما ضمنت الكفاية له. فقلت وقولك الحق الأصدق، وأقسمت وقسمك الأبر الأوفى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) ثم قلت: (فورب السماء والأرض إنّه لحق مثل ما أنّكم تنطقون) (الصحيفة السجادية).


فالحمد لله الذي جعلنا من المتمسكين بولاية أهل البيت عليه السلام لا نرد لهم حديثاً، ولا ندفع لهم قولاً، ونتعبّد بكلامهم وننهج منهجهم. فهم سفينة النجاة والأمان لأهل الأرض والسماء. وقد فتحوا لنا طريق العبودية، وعرّفونا إلى الحاجات الوهمية والحاجات الدنيوية الفانية والحاجات الأخروية الباقية. وشقّوا لنا طريق الوصول إليه.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع