الشيخ يوسف سرور
كأنّ الصلاة ميقات لقاء الأحبّة بمحبوبهم، واتّصال
العاشقين بمعشوقهم. وكأنّ "حيَّ على الصلاة" إيذان برفع حجاب نظر القلب، بعين
ظامئة، إلى وجه الرجاء الذي تنزاح برؤيته أثقال الدنيا، وتنجلي به عن الصدور
تبعاتها.
كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "أرِحنا يا
بلال"، ليسمع ذلك الإيذان ويشنّف به الآذان، وهو الذي سمّاه "الأذان"، ليطلق
لفؤاده العنان، ويحرّره من حدِّ الزمان وسدِّ المكان، وتحلّق الروح خارج أسْر
الأبدان.
* أوّل وقتها ومراقبة السماء
أنْ يراقبَ المرء أوقاته في سبيل الاستفادة منها على النحو الأفضل، فذلك من دلائل
وعيه لقيمة وقته وقيمة جهده وطاقته. وأنْ يعلم المرء أنّ قيمة العمل، إنّما تكسب
حدّها الأعلى إذا استوفت شروطها، ومن أهمّ شروطها أن تكون في وقتها، فذلك من دواعي
أداء حقّها.
تقف الصلاة في مطلع اهتمامات الإسلام، لما تحدثه في الإنسان من آثار إذا أُعطيت
حقّها، وأوّل هذه الحقوق أداؤها لوقتها.
في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: ما مِن عبد اهتمّ بمواقيت الصلاة ومواضع الشمس، إلّا ضمنتُ له الرَّوْح عند
الموت، وانقطاع الهموم والأحزان، والنجاة من النار... كنّا رعاة الإبل فصرنا رعاة
الشمس"(1).
ألا ترى أيّها العزيز، ذلك الدفع المتين الذي يحقّقه لنا ضمان النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم باتّجاه الانتظام مع التناسق الكونيّ العام؟!
ألا ترى المعنى الذي يرسو تحت كلمات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الصلاة
والانتظام مع وقتها ومراقبة أوّل دخوله ينقلنا من مراقبة الأرض إلى مراقبة السماء،
مع ما في ذلك من دلالة على قوّة الربط بين الصلاة وبين التحرُّر من حاجات الدنيا؟!
وقد قال اللّغويّون إنّ أصل معنى "الصلاة" هو الصلة والربط.
* في أوّل وقتها بيضاء مشرقة
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "يا أبان، هذه الصلوات الخمس المفروضات، من
أقامهنّ على مواقيتهنّ لقي الله يوم القيامة وله عنده عهد يُدخله به الجنّة، ومن لم
يصلّهن لمواقيتهنّ ولم يحافظ عليهنّ فذاك إليه، إن شاء غفر له وإن شاء عذّبه"(2).
نقل العلّامة المجلسيّ في مرآة العقول أنّه قد يظهر من المحافظة على الصلاة
الاهتمام بأوّل وقتها: "وقال الشيخ البهائيّ: المراد بالمحافظة على المواقيت شدّة
الاعتناء بشأنها بمراقبتها، والتطلّع إليها والتهيُّؤ لها، قبل دخولها وعدم تفويت
وقت الفضيلة منها، وما هو من هذا القبيل"(3).
وممّا يزيد هذا المعنى وضوحاً الحديث الذي يرويه أبو بصير قال: سمعت أبا جعفر
(الباقر) عليه السلام يقول: "... إنّ الصلاة إذا ارتفعت في أوّل وقتها رجعت إلى
صاحبها وهي بيضاء مشرقة، تقول لصاحبها: حفظتني، حفظك الله. وإذا ارتفعت في غير
وقتها بغير حدودها رجعت إلى صاحبها وهي سوداء مظلمة، تقول: ضيّعتني ضيّعك الله"(4).
فأيّ فرق وتفاوت بين أجر الصلاة في أوّلها، وهو من وجوه حفظها، وبين أجر أدائها في
آخرها وتضييعها؟
* كفضل الآخرة على الدنيا
في حديث للإمام الصادق عليه السلام يبعث الحسرة في قلوب المضيّعين والمسوّفين
للصلاة، ولكنّه يبعث الطمأنينة والبِشر في قلوب الحافظين للصلاة والمؤدّين لها في
أوّل وقتها، يقول عليه السلام: "فضلُ الوقت الأوّل على الآخر كفضل الآخرة على
الدنيا"(5).
بل نجد أنّ الندب على المسارعة إلى الصلاة في أوّل وقتها، يقدّم حقّها على كلّ
الحقوق التي أثبتتها الشريعة والعقلاء، كالعيال والأولاد والكسب الحلال. ففي الحديث
عن الإمام الصادق عليه السلام: "لفَضل الوقت الأوّل على الآخر خير للمؤمن من
ماله وولده"(6).
* يُطيّب العيش ويزيد في التوفيق
إنّ ما تقدّم يثير الغرابة والحيرة في النفس، لأنّه في مقابل هذا البيان من لدُن
سادة الأكوان، صلوات الله عليهم، نجد أنّ واقعنا، كمؤمنين، لا يترجم هذه الوصايا
المكتوبة بحبر الوحي على لوح العقل. ولو كنّا أكثر يقيناً بما عند الله وأكثر ثقةً
به، ممّا هو بين أيدينا، لبادرنا إلى التزام ما يدعونا إليه، ولعلمنا أنّ أداء
الصلاة حقّها والمسارعة لإقامتها في أوّل وقتها، يطيّب العيش ويزيد في التوفيق
للعمل الصالح، فضلاً عن أنّ أداءها في أوّل وقتها مدعاةٌ لقبولها أكثر من تأخيرها.
فكيف إذا علمنا أنّ بقيّة الأعمال يُناط قبولها أو عدم قبولها بالصلاة، التي هي
عمود الدين، لموثّقة سماعة عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (الباقر) عليه السلام
يقول: "... إنّ أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة، فإن قُبلت قُبل ما سواها"(7).
وعلى هذا الأساس يجب أن نحمل أعمالنا ونبني برامجنا، لتكون متوافقة مع القدرة على
إتيان الصلوات في أوائل أوقاتها.
* وقت الله الأوّل
ينبغي أن نعلم أنّ تقديم الصلاة على غيرها لتقع في أوّل وقتها إنّما هو تعبير عن
الشكر لله تعالى، وهو أيضاً حُسْنُ اقتداءٍ وتأسٍّ بالنبيّ والأئمّة المعصومين
عليهم السلام، والتزام بوصاياهم ووصايا الأنبياء عليهم السلام.
في الحديث عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، عن أبيه عليهما السلام، أنّه قال:
"أوصيك يا بنيّ بالصلاة عند وقتها"(8).
وقتٌ اعتُبر أوّل الوقت لله تعالى، كما في الحديث عن سعيد بن الحسن، قال: قال أبو
جعفر الباقر عليه السلام: "أوّل الوقت زوال الشمس، وهو وقت الله الأول، وهو
أفضلهما"(9).
* لا تأخير إلّا لعذر
وورد أيضاً أنّ من لم يبادر إليها أوّل وقتها كان من الساهين عنها، إنْ لم يكن له
عذر. فقد ورد عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ:
﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ
هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ (الماعون:4-5)، قال: "تأخير الصلاة عن أوّل وقتها"(10).
بل، حتّى النوافل ينبغي أن لا تؤخّر عن الصلاة المفروضة في أوّل وقتها، في الحديث
عن أبي بصير قال: "ذكر أبو عبد الله عليه السلام أوّل الوقت وفضله، فقلت: كيف أصنع
بالثماني ركعات؟ فقال: خفّف ما استطعت"(11).
والثماني ركعات هي نافلة الظهر التي تؤدَّى قبل الفريضة. وقد أخبرتنا المصادر أنّ
التأخير هو فقط لذوي الأعذار، فعن الصادق عليه السلام: "... وإنّما جُعل آخر الوقت
للمريض والمعتلّ ولمن له عذر، وأوّل الوقت رضوان الله، وآخر الوقت عفو الله"(12).
* أطفئوا نيرانكم
إنّ الذي دعانا إليه، للمثول بين يديه، يريد أن يرى تلبيتنا، لأنّه أعدّ الهدايا
والجوائز لمن قصّر وضيّع، بعفوه وصفحه، ولمن أحسن بقبول عمله. في الحديث عن أبي عبد
الله عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من صلاة
يحضر وقتها إلّا نادى ملك بين يديّ الله: أيّها الناس، قوموا إلى نيرانكم التي
أوقدتموها على ظهوركم فأطفئوها بصلاتكم"(13).
وفي حديث عن الإمام الكاظم عليه السلام: "الصلوات الخمس المفروضات في أوّل
وقتها، إذا أُقيم حدودها، أطيب ريحاً من قضيب الآس حين يؤخذ من شجرة في طيبه وريحه
وطراوته، فعليكم بالوقت الأول"(14).
1- الأمالي، المفيد، ص88.
2- مرآة العقول، محمد باقر المجلسيّ، ج15، ص12 - 13.
3- (م.ن)، ج15، ص12، في ذيل الحديث الثاني من باب (من حافظ على صلاته أو ضيّعها).
4- الكافي، الكليني، ج3، ص268.
5- ثواب الأعمال، الصدوق، ص58، ح2.
6- بحار الأنوار، المجلسي، ج82، ص359، ح43.
7- الكافي، (م.س)، ص268.
8- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج4، ص124.
9- التهذيب، الطوسي، ج2، ص8، ح50.
10- تفسير القمّي، علي بن إبراهيم القمّي، ج2، ص444.
11- التهذيب، (م.س)، ص257، ح1019.
12- ميزان الحكمة، الريشهري، ج5، ص2175.
13- الوسائل، (م.س)، ص120، ح7.
14- ثواب الأعمال، (م.س)، ص58، ح1.