صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

مناسبة: صحيفة سيد الساجدين عليه السلام

الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره


الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام، الرابع من أئمّة أهل البيت الذين أَذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. وهو أحد الأئمّة الاثني عشر الذين أخبر عنهم النبيّbصلى الله عليه وآله وسلم، كما جاء في صحيحَي البخاري ومسلم وغيرهما، إذا قال: "الخلفاء بعدي اثنا عشر، كلّهم من قريش".

•ربيب بيت الوحي
وُلد الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام في سنة (38) ثمان وثلاثين للهجرة، وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين. وعاش نحو سبعة وخمسين عاماً. قضى بضع سنين منها في كنف جدّه الإمام عليّ عليه السلام، ثمّ نشأ في مدرسة عمّه الحسن عليه السلام، وأبيه الحسين عليه السلام سبطَي الرسولصلى الله عليه وآله وسلم، وتغذَّى من نمير علوم النبوّة، واستقى من مصادر آبائه الطاهرين عليهم السلام. وبرز على الصعيد العلميّ والدينيّ إماماً في الدين، ومناراً في العلم، ومرجعاً في الحلال والحرام، ومثلاً أعلى في الورع والعبادة والتقوى، وآمن المسلمون جميعاً بعلمه واستقامته وأفضليّته، وانقاد المؤمنون منهم إلى زعامته وفقهه ومرجعيّته.

•تنقاد له القلوب
وقد كان للمسلمين عموماً تعلّق عاطفيّ شديد بهذا الإمام، وولاء روحيّ عميق له، وكانت قواعده الشعبيّة ممتدّة في كلّ مكان في العالم الإسلاميّ، كما يشير إلى ذلك موقف الحجيج الأعظم منه، حينما حجّ هشام بن عبد الملك، وطاف وأراد أن يستلم فلم يقدر على استلام الحجر الأسود من الزحام، فنُصب له منبر فجلس عليه ينتظر. ثمّ أقبل الإمام زين العابدين عليه السلام وأخذ يطوف، فكان إذا بلغ موضع الحجر انفرجت الجماهير، وتنحّى الناس حتّى يستلمه؛ لعظيم معرفتهم بقدره وحبّهم له على اختلاف بلدانهم وانتساباتهم، وقد سجل الفرزدق هذا الموقف في قصيدة رائعة مشهورة.

•حلّ مشكلة النقد الإسلاميّ
كانت الأمّة تؤمن به مرجعاً وقائداً ومفزعاً في كلّ مشاكل الحياة وقضاياها، بوصفه امتداداً لآبائه الطاهرين، ومن أجل ذلك نجد أنّ عبد الملك، حينما اصطدم بملك الروم، وهدّده الملك الرومانيّ باستغلال حاجة المسلمين إلى استيراد نقودهم من بلاد الرومان لإذلال المسلمين وفرض الشروط عليهم، وقف متحيّراً وقد ضاقت به الأرض، كما جاء في الرواية، وقال: أحسبني أشأم مولود وُلد في الإسلام.

فجمع أهل الإسلام واستشارهم، فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به، فقال له القوم: إنّك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر! فقال: ويحكم، مَن؟ قالوا: الباقي من أهل بيت النبيّصلى الله عليه وآله وسلم، ففزع إلى الإمام زين العابدين عليه السلام، فأرسل ولده محمد بن عليّ الباقر عليه السلام إلى الشام، وزوّده بتعليماته الخاصة، فوضع خطة جديدة للنقد الإسلاميّ، وأنقذ الموقف.

•زَرَع بذور الاجتهاد الإسلاميّ
وقد قُدِّر للإمام زين العابدين عليه السلام أن يتسلّم مسؤوليّاته القياديّة والروحيّة بعد استشهاد أبيه، فمارسها خلال النصف الثاني من القرن الأوّل في مرحلة من أدقّ المراحل التي مرّت بها الأمّة وقتئذٍ، وهي المرحلة التي أعقبت موجة الفتوح الأولى.

وعلى الرغم من أنّ هذه القيادة جعلت من المسلمين قوّة كبرى على الصعيد العالميّ مِن الناحيتَين السياسيّة والعسكريّة، لكنّها عرّضتهم لخطرَين كبيرَين: أحدهما؛ الخطر الذي نجم عن انفتاح المسلمين على ثقافات متنوّعة وأعراف تشريعيّة وأوضاع اجتماعيّة مختلفة، بحكم تفاعلهم مع الشعوب التي دخلت في دين الله أفواجاً، وكان لا بدّ من عمل على الصعيد العلميّ يؤكّد في المسلمين أصالتهم الفكريّة وشخصيّتهم التشريعيّة المتميّزة، المستمدّة من الكتاب والسنّة، وكان لا بدّ من حركة فكريّة اجتهاديّة تفتح آفاقهم الذهنيّة ضمن ذلك الإطار، وكان لا بدّ من تأصيل الشخصيّة الإسلاميّة، وزرع بذور الاجتهاد.

فبدأ الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام، حلقةً من البحث والدرس في مسجد الرسولصلى الله عليه وآله وسلم، يحدّث الناس بصنوف المعرفة الإسلاميّة من تفسير وحديث وفقه، ويفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين، ويمرّن النابهين منهم على التفقّه والاستنباط. وقد استقطب الإمام عليه السلام عن هذا الطريق، الجمهور الأعظم من القرّاء وحملة الكتاب والسنّة، حتّى قال سعيد بن المسيّب: "إنّ القرّاء كانوا لا يخرجون إلى مكّة حتّى يخرج عليّ بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب".

•سلاحه الدعاء
أمّا الخطر الآخر، فقد نجم عن موجة الرخاء التي سادت المجتمع الإسلاميّ في أعقاب ذلك الامتداد الهائل؛ لأنّ موجات الرخاء تعرّض أيّ مجتمع إلى خطر الانسياق مع ملذّات الدنيا، والإسراف في زينة هذه الحياة المحدودة، وانطفاء الشعور الملتهب بالقيم الأخلاقيّة والصلة الروحيّة بالله واليوم الآخر، وتكفي نظرة واحدة في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهانيّ ليتّضح الحال.

وقد أحسّ الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام بهذا الخطر وبدأ بعلاجه، واتّخذ من الدعاء أساساً لهذا العلاج، وكانت الصحيفة السجّاديّة من نتائج ذلك. فقد استطاع هذا الإمام العظيم، بما أوتي من بلاغة فريدة، وقدرة فائقة على أساليب التعبير العربيّ، وذهنيّة ربّانيّة تتفتّق عن أروع المعاني وأدقّها في تصوير صلة الإنسان بربّه، ووجده بخالقه، وتعلّقه بمبدئه ومعاده، وتجسيد ما يعبّر عنه ذلك من قيم خلقيّة وحقوق وواجبات.

لقد استطاع الإمام عليّ بن الحسين بما أوتي من هذه المواهب، أن ينشر من خلال الدعاء جوّاً روحيّاً في المجتمع الإسلاميّ، يساهم في تثبيت الإنسان المسلم عندما تعصف به المغريات، وشدّه إلى ربّه حينما تجرّه الأرض إليها، وتأكيد ما نشأ عليه من قيم روحيّة لكي يظلّ أميناً عليها في عصر الغنى والثروة، كما كان أميناً عليها وهو يشدّ حجر المجاعة على بطنه.

وقد جاء في سيرة الإمام، أنّه كان يخطب الناس في كلّ جمعة ويعظهم ويزهّدهم في الدنيا، ويرغّبهم في أعمال الآخرة، ويقرع أسماعهم بتلك القطع الفنيّة من ألوان الدعاء، والحمد والثناء التي تمثّل العبوديّة المخلصة لله سبحانه وحده لا شريك له.

فكانت الصحيفة السجّاديّة، تعبّر عن عمل اجتماعي عظيم، كانت ضرورة المرحلة تفرضه على الإمام، مضافاً إلى كونها تراثاً ربّانيّاً فريداً، يظلّ على مرّ الدهور مصدر عطاء، ومشعل هداية، ومدرسة أخلاق وتهذيب، وتظلّ الإنسانيّة بحاجة إلى هذا التراث المحمّديّ العلويّ، وتزداد حاجةً كلّما ازداد الشيطان إغراءً والدنيا فتنة.

فسلامٌ على إمامنا زين العابدين يوم وُلد، ويوم أدّى رسالته، ويوم مات، ويوم يُبعث حيّاً.


(*) الصحيفة السجّاديّة الكاملة للإمام زين العابدين عليه السلام، تقديم الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره، ص13.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع