نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الشّهادة مُراد العاشقين‏

نسرين إدريس‏

 



ترابُ الوطن طينةُ الإنسان، والماءُ المسكوب فوق جفافه زُلالاً من عزة وكبرياء، فالإنسان ووطنه صورة متكاملة الأجزاء، كل منهما يدينُ للآخر. باستكمال معنى وجوده... وليس من الشهامة، فحسب، مدافعة الإنسان عن أرضه، بل فطرة اللَّه التي فطره عليها، لا ينحني فيها إلا للَّه رب العالمين... وإذا كان كل مواطن ينتمي إلى وطن حرٍّ، حدود وطنه وسع الدنيا، فإن كل عدوٍّ غاشم يسعى لبسط سيطرته على بقعة أرضٍ يسعى لتقزيمها وتصغيرها، وهذا كان واضحاً جداً في تصريح أحد كبار جنرالات الجيش الإسرائيلي قُبيل اجتياح الأراضي اللبنانية في العام 1982، عندما كانوا يضعون الخطة الحربية لذلك، فنصحهم بالاكتفاء بإرسال "الفرقة الموسيقية" في الجيش الإسرائيلي إلى لبنان، ما يعني أن هذا الوطن الصغير لم يكن مُدرجاً أساساً في خطة الحرب لأنهم اعتبروه مُحتلاً ضمناً.

وكانت الصفعة قوية للجيش الإسرائيلي في ذلك العام، حيث جوبه بالأسلحة المتوسطة والخفيفة من قبل رجال لم يروا الحياة في وطن محتلٍ سوى موتاً حقيقياً، فحولوا أجسادهم إلى عبوات، وصرخاتهم إلى رصاصٍ، رجال أطلقوا على أنفسهم لقب "الخمينيون" في مواجهات خلدة الشهيرة بعد أن أبادوا القوة الإسرائيلية التي قامت بالإنزال وغنموا ملالة عادوا بها إلى منطقة الأوزاعي ليرى الناس بأم العين أن المخرز قد تكسَّر رغم نزيف الدّم والدمع... هناك كانت انطلاقة المقاومة الإسلامية بمباركة مباشرة من الإمام الخميني العظيم ه لاستئصال الجرثومة السرطانية إسرائيل، وهناك أيضاً كان الإسلام المحمدي الأصيل يولد من جديد، وبقدر ما تكون القضية كبيرة ومهمة بقدر ما تكون التحديات صعبة، فبُذلت الأرواح في سبيل ترسيخ نهج المقاومة، لتصبح بعد ذلك طريقاً أساسياً في الحياة لا يقوى على المُضي قدماً فيها إلا الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقهم اللَّه ينفقون... كان الإيمان المتوقد من جباههم يُمطر الرحمة على سنواتٍ عجاف فأنبتَ الموتُ الحياةَ في قلوبهم البيضاء ليكونوا هم الوارثين... لم تكن المعارك، طوال فترة المقاومة، معارك متكافئة، على الصعيدين العسكري والمعنوي، فمن الناحية العسكرية كان الجيش الإسرائيلي يملك ترسانة ومعدات كفيلة بتدمير لبنان وجعله كصحراء قاحلة لا تدب فيها الحياة، ومن الناحية المعنوية، كانت شجاعة المجاهدين كفيلة بأن تجعل العدو خائفاً من دبيب النملة قرب المواقع، وأصبحت الخدمة في الجنوب اللبناني كابوساً يلاحق الجنود الذين كانوا يعتبرون أنفسهم ذاهبين إلى الموت وليس إلى حراسة الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة...

اختار الأباة درب الخطر، ونالوا العزة والكرامة... رحل بعض المجاهدين شهداء، وبقيت القضية بأصالتها تزداد تألقاً ورونقاً وقد تزينت بدماء الأحبة... وبقي بعضهم الآخر في الخندق صفاً ينتظر وعد اللَّه بإحدى الحسنيين... وكم بكى رجال رأوا الشهادة بل ولامسوا أطرافها فانفلتت من أيديهم لحكمة لا يعلمها إلا العزيز الجبار... هي الشهادة التي لا يفهمها ولا يُدرك حقيقة كنهها إلا من ارتداها وغادر الدنيا... أن يقدّم المرء حياته في سبيل وطنه هو أمر خُطّ بالحبر المُقدس على مرّ التاريخ، وأن يدافع الإنسان عن إنسانيته هو تعبير صادق عن القيمة الرفيعة للإنسان الذي بداخله... ولكن للشهادة صورة أخرى وطعم آخر...

الشهادة تُصبح مقصلة يضعُ العاشقُ عليها رقبته برغبة منه، وينتظرُ اللَّحظة التي تُفصل فيها روحه عن جسده، تلك اللحظة التي تنجلي فيها الحقائق ويصبح القلب مبصراً للعالم الغيبي يسبحُ في آفاقه متلمساً الأنوار القدسية والنفحات الربانية...

الشهادة جذوة من عشقٍ رباني متوقد في قلوبٍ لم تهوِ في درك الدنيا، ولم تُعْنِها الحياة سوى أنها ورقة بيضاء فردت حدودها لرسم الدمّ لتكوِّن الحبيبات لحظة لقاءٍ مع اللَّه... هذا ما حمله مجاهدو المقاومة الإسلامية، وما خطَّطه الشهداء منهم، فهم في كل موقع، وعند مفترق كل طريق، وفي كل لحظة، حلم لم يغفو على أشفار العيون طرفةً، ولا غاب عن خطرات الفؤاد لمحة، ولا اسْتُغنيَ عنه بمال أو ولد، بل بقي مخالطاً للنجوى مخالطة اللحم والعظم في جسم الإنسان، فلا يمكن لمرء عرف اللَّه حقيقةً أن يغرب عن الشهادة أو أن يختار خياراً آخر... كلما سمعوا نداء اللَّه، في الحديث القدسي: "من طلبني وجدني، ومن وجدني عرفني، ومن عرفني أحبني ومن أحبني عشقني، ومن عشقني عشقته، ومن عشقته قتلتُه ومن قتلته فعليّ‏َ ديَّته ومن عليّ‏َ ديَّته أنا ديته". ففردوا أرواحهم ليحملهم العشق على أجنحة الشوق ويشقوا دروب السماء لتملأ أنوارهم القدسية أرجاء الكون، وأصواتهم صدىً يسبحُ في كل النفوس المطيعة للَّه فكانت مثله... هكذا هم مجاهدو وشهداء المقاومة، أناس رفضوا إلا أن يكونوا أحراراً، عبيداً للَّه وحده، وسيبقى تاريخهم حجةً على جميع الشعوب المستضعفة في أقطار العالم، حتى يهبُّوا لدرء الظلم عنهم ويقدِّموا الغالي والنفيس في سبيل إيجاد تلك المساحة ليقفوا فيها بكل صلابة أمام المستكبرين ولا ينحنوا إلا للَّه، وقد اختاروا الحرية التي أرادها اللَّه لهم .

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع