نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قصة العدد: دمعة على ورقة من الماضي

ولاء إبراهيم حمود

 



إلى المعلمات اللواتي كنَّ لغير أبنائهن أمهات... ولهادي ورفاقه، وقد أحيت محبتهم الكبيرة في قلبي حكايات التفوق، لطلاب النجاح. حدَّثني هادي ذات أصيل صائفٍ، على شرفة منزلنا الريفي، قال: "كان لا يزعجني منها سوى عطرها النفّاذ، الذي كان يسبقها إلينا، ووقع خطواتها التي كانت تخبرنا بوصولها، على بعد أمتار من صفنا...".

تأملت ملامحه الفتية، التي بدأت تزفّ للحياة بشرى ميلاد فتاها الجديد. سألته عنها: من هي؟... من تكون؟ فلم يجبني، تابع ساهياً عن كل شي‏ء حوله: "أجل لم يكن يزعجني منها سوى هذين الأمرين... أما ما عدا ذلك، فقد كانت رائعة... أصيلة... إنسانةً قبل أي شي‏ء آخر... كم كنا نخطئ معها... وكم كانت تغفر وتتفهّم"؟ فهمت ما كنت أسأله عنه فعاتبته: "وأنت يا هادي! كنت تشاركهم في كل أخطائهم؟ كنت تمعن معهم في إيذائها؟"، فأجابني نافياً: "لا يا أمي! لم أكن يوماً مثلهم، لكنها كانت توكل إليّ أمر تأمين وسائل الإيضاح من خرائط ومجسمات، الأمر الذي شكّل لفؤاد مادةً دسمةً لإيذائنا معاً، كان فؤاد يا أمي مشاغباً غير عادي... كان يغيظني دائماً بمناداتي "دلّوع الآنسة".

كنت أخشى بطشه، كيف بي وهو أضخم مني قامةً... وحدث ذات يوم ما كنت أخشاه، منعني من حمل مجسّم الكرة الأرضية، فرفضت، تشاجرنا ونال مني، لأن خوفي على المجسّم الأمانة بين يدي كان يعيق حركتي، لكنني أوصلته إلى الصف، رغماً عنه، رأتني يومها، والدماء تنزف من أنفي، فتولّت بنفسها بعد أن مسحت يداها الحانيتان رعاف أنفي الشديد كتابة ملاحظات الدرس على دفتري، وفي اليوم التالي أردت الثأر لكرامتي، عندما تأخرت معلمتنا قليلاً، رفع فؤاد عقيرته بالغناء النشاز، لم أحتمله، بدأت بإنشاد الأناشيد، وإلقاء القصائد، وانقسم الصف قسمين، قسم صفّق لي وحثّني على المزيد، وآخر راح يغني معه وعلت الفوضى... ووصل صداها إلى الصفوف الأخرى. ولكي يعلو صوتي صوته، وقفت في منتصف الصف أمام اللوح، وكنت مولياً للباب ظهري، فلم أرها حين وقفت شابكةً يديها تنتظر صمتي... كان فؤاد قد سبقني إلى رؤيتها. عندما وقع نظري عليها، بعد أن رابني صمته المفاجئ، صفعتني عيناها الغاضبتان للمرة الأولى، أقسم لك أني جاهدت طويلاً لاقتلاع قدميّ المسمرتين من أرضهما، فلم أستطع، بكيت... أمام الجميع بكيت... وقد أصغوا لأنهم رأوا في المشهد ما يستحق المراقبة، رصداً لردة فعلها أمام الشغب اللامعتاد من تلميذها الأثير لديها... وزعت على زوايا الصف الأربعة نظراتها المتسائلة، المستنكرة، اقتربت مني بخطوات لا صوت لها... لامست كتفي برفق وهمست بنبرة حملتها أجنحة الصمت إلى آذان الجميع: أنت؟ حتى أنت يا هادي؟... أكاد لا أصدق ما سمعت؟

 بالكاد استطعت فتح شفتي المطبقتين جفافاً وألماً. أردت إخبارها دفاعاً عن نفسي بما لم تشاهده لتعذرني، سبقني فؤاد وصاح بها وبمنتهى الجرأة: "صدّقي أو لا تصدقي، إنه هادي... صغيرك المدلل"... ورشقني بسرعة السهم تعليقاً ساخراً: "حتى أنت يا بروتوس؟"... وللمرة الأولى سمعت صوت معلمتي المفضلة يعلو، وسمعتها تصيح بفؤاد: "كفاك نزقاً... من تظن نفسك؟ يوليوس قيصر، اخجل قليلاً... وفكّر بعناء والديك في تأمين أقساطك أو احسم قرارك واخرج لأن في الصف من يريد أن يتعلم". جلست على مقعدها... تهدئ أعصابها الثائرة، اقتربت لأشرح لها، بادرتني بلهجة جافة "عد إلى مكانك"، عزَّ عليَّ الآن أن تراني كسواي، وأن أبدو بنظرها عابثاً... لاهياً... وأن تعاملني على هذا الأساس. حطّمت هذه اللحظة قلبي، فأحجمت عن المشاركة في حصة لم يعد وجودي مرغوباً فيها... طال صمتها الذي قطعه سامر، شريك فؤاد في "شيطنته"، سألها عن تسميع الدرس فرفضت، طلبت وضع قلمٍ وورقة استعداداً للمسابقة، علت صيحات الاستنكار، تجاهلتها وكتبت على اللوح سؤالاً، قرأته بصوت حازم أفهم عصابة الشغب أنها لم تعد تلك المبتدئة الخجولة، كان السؤال مفاجئاً لا يتصل بالدرس أبداً "... من هو رفيقك الذي تتوقع له النجاح في امتحانات الشهادة الرسمية للصف التاسع هذا العام؟" وبعد دقائق قليلة، جمعت الأوراق وراحت تسأل كل تلميذ عن سبب اختياره هذا الرفيق دون سواه... سألت الجميع عن الجميع إلا أنا، لم يذكرني أحد، لم أكن متفوقاً يذكر، كنت دائماً وحيداً، لا يؤنسني سوى تعاملها الإنساني الفريد، والذي خسرته باندفاعي في تحدي فؤاد... تساءلت في حزن مرير هل سأستطيع يوماً تصحيح الموقف قبل نهاية العام؟ فجأة التفتت إليّ، نادتني بصوتٍ لا أثر فيه للغضب: "هادي، هلاّ عرفت من هو رفيقي الذي أتوقع له النجاح هذا العام؟" استدارت رؤوسهم نحوي، حاصرتني نظراتهم فارتبكت، وانتظروا جوابي طويلاً... وأخيراً وبصوت قد بُحّ خجلاً أجبتها "من أين لي أن أعرف"؟ فبادرتني بحنوها القديم كله: "ألا تعرف؟ حسناً..." فكتبت على اللوح بخطها الجميل: إن رفيقي الناجح في هذا العام، هو أنت يا هادي... لأنك شغلت وقت انتظاري بحفظ الشعر وإلقائه، وهو ما يقوم به كل مجتهد ناجح. ثم أضافت ما لم يزل صداه يتجاوب في أعماق روحي: "وغداً إذا ما جمعني بك الغد في باحة معهدٍ جامعي ما سأهنئك فخورة بك، لا كمعلمة عرفتك يوماً بل كأم أحبتك دوماً". واخترق حقد فؤاد عليّ جدار الصمت الذي رفعته المفاجأة اللامتوقعة، وصاح بها: "هادي... لم تجدي سواه... هذا الذي تتقطع أنفاسه قبل وصوله إلى المعدّل الوسطي؟ ماذا عنّا نحن؟". واجهته بابتسامة أشرق بها وجهها للمرة الأولى في تلك الحصة "هادي... أجل هادي... لا سواه... وستنجحون كلكم إذا ما اقتديتم به واستفدتم من أوقات الفراغ، بغير إثارة الشغب الذي تهواه يا فؤاد... أجل إنه هادي الذي كان ذكياً إذ واجه طيشك بالحكمة... وشجاعاً إذ واجه حقدك بالإصرار... أود أن أسألك للمرة الأخيرة يا فؤاد: لماذا يتملّكك الحقد حتى على نفسك؟ لماذا تستحوذك رغبة تدمير كل ما هو محقٌ وخيرٌ وجميل"؟

ولأول مرة في عمره، أحنى فؤاد رأسه متأثراً بإخلاص لهجتها... صدقيني يا أمي! إنني لم أكن محتاجاً لأكثر مما قالت أو فعلت، لأبكي هذه المرة فرحاً بعد أن تخففت من ثقل الإحباط الذي عصر قلبي في بداية الحصة. هل تصدقين أنها الآن في قلبي وجهك الآخر الذي سيرافقني حتى أصير معلماً"؟ وسكن هادي منتظراً تعليقي. لكن ملامحه المتأثرة دفعتني لاستزادته فاللحظة مؤاتية وقد شارفت على نهايتها "كيف انتهى الموقف بينكما؟" "إنه لم ينته يا أمي، لقد بدأناه معاً من جديد، لقد بتنا نتشوق لحضورها... وبات وقع خطواتها الآتية من بعيد بشرى وصولها إلينا، وأصبحت أكثر ثقة بنفسي، لم يعد هيكل فؤاد الضخم يخيفني، هي أعطتني جرعة دعم معنوي صادق حين وصفتني بالشجاع، أرادتني بين رفاقي مهاباً، فكان لها ما أرادت، وصارت كلمتي بينهم مسموعة، فقد صرت صديقهم. حتى فؤاد وسامر انقلبا شخصين جديدين، بعد أن اكتشفا لمعلمتنا وجهها الآخر، القوي الشجاع، الذي يحمل ملامح الحب والرقة في قلبها الكبير... لقد نجحنا جميعاً يا أمي... وكان نجاحنا في مادة الإجتماعيات بنسبة مئة في المئة...! وبعلامات تجاوزت المعدل الوسطي. ولقد سمعت المدير يهنئها، عندما وزّع علينا وثائق علاماتنا بعد صدور النتائج الرسمية، ويدعوها لتوقيع عقد جديد للعام القادم"... "لقد أفرحك هذا الأمر كثيراً أليس كذلك يا هادي؟". "أجل يا أمي، فهذا يعني أنها فازت بجدارة في اجتياز البدايات الصعبة، في مهمة بناء الإنسان، ولكن نجاحي جعل وداعنا كئيباً لأنني لن أكون تلميذها بعد اليوم، وإن كانت ذكريات عام كامل مميز... ستخلدها في وجداني أمّاً حتى آخر العمر...". انتحيت بانفعالي جانباً، لأنني رأيته يخفي دموع الرجال التي غزت عينيه الواسعتين الناطقتين بما يصعب قوله، تركته يحيا مشاعره بحرية بعيداً عن تدخلي الحميم لأن معلمته استحقت بنظري دمعة يذرفها تلميذها إكراماً لها على ورقة من دفاترها القديمة في حنايا ذاكرته الحية، وعندما لسعتني برودة الليل الصيفي تركت يده الدافئة تقودني إلى مكتبي وتعطيني قلماً وأوراقاً، كان قد اقتطفها من دفاتره العتيقة، وجلست لأكتب ما أحببت قوله عنها له: "إن الأرض لن تفتقد الدف‏ء طالما أنها تستقبل كل يوم إشراقة شمس الصباح، ليشرق معها الإيمان بالإنسان بعد اللَّه". غادرني هادي لبعض شؤونه، وتركني أمضي الليل في الكتابة عرفاناً لمعلمة خطت على دروب التعليم أولى خطواتها، بشجاعة وثبات... وهبته منهما الكثير، فأودع في قلبه ذكراها، مجللة بمشاعره لأمه، تلك المشاعر التي لم يزدها تقدم الحياة في نظره إلا علماً وحباً وجمالاً...

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع