نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

تقديس رسول الله صلى الله عليه وآله(2/1)

الشيخ حسين كوراني‏

 



* في المنطلقات:
القدس في اللغة الطهر، وليس السبب في الطهر المعنوي إلا سلامته من شوب الباطل، ومن هنا كان "القدّوس" على الإطلاق هو الحق المطلق(1).


* والحق في اللغة: "هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، من "حقَّ الشي‏ء"، يحقُّ، إذا ثبت ووجب. وفي اصطلاح أهل المعاني: الحكم المطابق للواقع، يطلق على الأقوال والعقائد، والأديان، والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك، ويقابله الباطل(2). والباطل في اللغة: هو ما لا ثبات له عند الفحص عنه(3).

* ولئن اختلف الناس في تطبيق الحقيقة المطلقة على مصاديقها فإنهم متفقون على ثلاثة محاور:
1- "قداسة" الحقيقة، بمعنى أنها القيمة المقدسة التي لا يجوز النيل منها بوجه من الوجوه.
2- أن مقدار تجلّي الحقيقة في أي مجال فرداً كان أو جماعة، أو فكرة، أو شيئاً يكسب هذا المجال من "القداسة" بمقدار تجلّي الحقيقة فيه.
3- وانطلاقاً من محورية الإنسان وتميزه بين المخلوقات بلحاظ أنه الأقدر على التفاعل مع الحقيقة، فمن البديهي أن يكون للإنسان الذي تتجلى الحقيقة فيه، موقع طليعي بين سائر مجالات تجلّي الحقيقة.

يشكّل ما تقدم أصلاً في الفكر البشري، لا يقع الإختلاف إلا في تطبيقه، وعليه تتفرّع المسلمات المجمع عليها بين الناس أجمعين من احترام الوطن، والقانون، والحريات، وغير ذلك، بل تتفرّع عليه أيضاً المسلّمة المجمع عليها من إنزال أقصى العقوبات بمن يتطاول على قدس هذه المسلمات، فإذا بخيانة الوطن مثلاً "الخيانة العظمى" التي تستتبع القتل.

* وحيث إن الحقيقة المطلقة في الرؤية التوحيدية هي الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ كان من الطبيعي أن لا تسبغ القداسة بالأصالة إلا على الله تعالى، وتسبغ القداسة بالتبعية على كل تجلٍّ للقدس الإلهي بمقدار ما يكون التجلي.

* هو الحق:
كثيرة هي الآيات المباركة التي تؤكد أصل أن الله تعالى "هُوَ الْحَقُّ" ومنها:
1- الآية المشار إليها: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الحج: 6).
2- ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (لقمان: 30).
3- ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (النور: 25).
4- ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (المؤمنون: 116).
5- ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (الأنعام: 62).
6- ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (يونس: 30).
7- ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (يونس: 32).

* في الدلالة:
قال الشيخ الطوسي:

"وصْفُه تعالى بأنه الحق يحتمل أمرين: أحدهما: أنه ذو الحق في قوله وفعله. الثاني: أنه الواحد في صفات التعظيم التي من اعتقدها فهو محق"(4). يريد بالأول: كما تقول العدل وتقصد العادل المتمحض فيه. وفي مكان آخر قال رحمه الله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ: الذي يجب توجيه العبادة إليه"(5). أي انطلاقاً من أن العبادة هي قمة التعلق بالحقيقة والذوبان فيها.

* وقال القرطبي:
"كل ما سواه وإن كان موجوداً حقاً فإنه لا حقيقة له من نفسه، لأنه مسخَّر مصرَّف. والحق الحقيقي : هو الموجود المطلق الغني المطلق، وأن وجود كل ذي وجود عن وجوب وجوده، ولهذا قال في آخر السورة: ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ (الحج: 62). والحق الموجود الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، وهو الله تعالى"(6). يريد أن الواقعية والحقانية تدوران مدار الوجود القطعي، وحيث إن كل موجود يفتقر إليه تعالى، فإن كل حقانية فرع وجوب وجوده عز وجل، فهو الحق المطلق، ويلتقي مراد القرطبي بما يأتي عن السيد الطباطبائي.

* وقال السيد الطباطبائي:
"المراد بالحق نفس الحق، أعني أنه ليس وصفاً قائماً مقام موصوف محذوف هو الخبر، فهو تعالى نفس الحق الذي يحقق كل شي‏ء حق ويجري في الأشياء النظام الحق، فكونه تعالى حقاً يتحقق به كل شي‏ء حق، هو السبب لهذه الموجودات الحقة، والنظامات الحقة الجارية فيها، وهي جميعاً تكشف عن كونه تعالى هو الحق"(7).

وقال في مكان آخر:
"وإذا كان حقية الشي‏ء هو ثبوته فهو تعالى حق بذاته، وغيره إنما يحق ويتحقق به. وإذا تأملت هذا المعنى حق تأمله وجدت أولاً: أن الأشياء بأجمعها تستند في وجودها إليه تعالى، وأيضا تستند في النظام الجاري فيها عامة، وفي النظامات الجزئية الجارية في كل نوع من أنواعها وكل فرد من أفرادها إليه تعالى"(8).

* وقال أيضاً:
"وقد تحقق مما تقدم أن الحق في معنى الواجب الوجود"(9). وحول الآية المباركة: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ قال قدس سره: "والحصران في قوله: بأن الله: "هو الحق" وقوله: "وأن ما يدعون من دونه هو الباطل" إما بمعنى أنه تعالى حق لا يشوبه باطل وأن ما يدعون من دونه وهي الأصنام باطل لا يشوبه حق، فهو قادر على أن يتصرف في تكوين الأشياء وأن يحكم لها وعليها بما شاء. وإما بمعنى أنه تعالى حقٌّ بحقيقة معنى الكلمة مستقلاً بذلك، لا حق غيره إلا ما حققه هو، وأن ما يدعون من دونه وهي الأصنام بل كل ما يركن إليه ويدعى للحاجة من دون الله هو الباطل لا غيره إذ مصداق غيره هو الله سبحانه فافهم ذلك، وإنما كان باطلاً إذ كان لا حقية له باستقلاله، والمعنى على أي تقدير أن ذلك التصرف في التكوين والتشريع من الله سبحانه سبب أنه تعالى حق يتحقق بمشيته كل حق غيره، وأن آلهتهم من دون الله وكل ما يركن إليه ظالمٌ باغٍ من دونه باطلٌ لا يقدر على شي‏ء"(10). وخلاصة الأرجح في ما تقدم من الآراء أن الثابت الذي وجب ثبوته وحق، والذي يكتسب منه كل حق حقانيته هو الحق المطلق عز وجل.

* الحق المبين:
ولا بد من الوقوف بعناية عند قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (النور: 25). والمبين هو الذي يوضح غيره ويبينه، ولئن استعمل بما يشي بغير ذلك كما في "البلاء المبين" و"الخسران المبين" فإن سبب استعماله هو كونه من غاية الوضوح بحيث يصبح مبيناً لكل أحجام ما عداه من البلاء أو الخسران وغير ذلك(11). وعليه فالحق المبين مصطلح يحمل معنى الحق الذي لا تتضح حقانية أي شي‏ء إلا به ومن خلال الإرتباط به، والوقوع في صراطه الوجودي أو التشريعي الحق.

قال السيد الطباطبائي:
﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِين. والآية من غرر الآيات القرآنية تفسر معنى معرفة الله، فإن قوله: ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ينبئ أنه تعالى هو الحق لا سترة عليه بوجه من الوجوه ولا على تقدير من التقادير، فهو من أبده البديهيات التي لا يتعلق بها جهل، لكن البديهي ربما يغفل عنه فالعلم به تعالى هو ارتفاع الغفلة عنه الذي ربما يعبر عنه بالعلم، وهذا هو الذي يبدو لهم يوم القيامة فيعلمون أن الله هو الحق المبين"(12).

* يتضح مما تقدم:
1- أن من المسلمات العقلية تقديس الحق.
2- أن الله تعالى هو الحق المطلق.
وعليه فالتقديس من حيث الأصل والمبدأ منحصر به تقدست آلاؤه وجل ثناؤه.

* هل ينافي ذلك تقديس غير الله تعالى؟
قال العسكري:

* وقال بعض المحققين: التسبيح هو تنزيه الله عما لا يليق بجاهه من صفات النقص. والتقديس: تنزيه الشي‏ء عن النقوص. والحاصل أن التقديس لا يختص به سبحانه بل يستعمل في حق الآدميين. يقال: فلان رجل مقدَّس: إذا أريد تبعيده عن مسقطات العدالة ووصفه(بالخير) ولا يقال: رجل مسبَّح، بل ربما يستعمل في غير ذوي العقول أيضاً، فيقال: قدس الله روح فلان، ولا يقال: سبحه. ومن ذلك قوله تعالى: (ادخلوا الأرض المقدسة) (..) يعني أرض الشام. وأما قول الملائكة: (سبوح، قدوس) مع أن المناسب تقديم القدوس ليكون ذكره بعده ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، فلعله للإيذان من أول الأمر بأن المراد وصفه سبحانه دون غيره. انتهى. وهو تحقيق أنيق)(13). ولا ينافي عدم حصر التقديس به سبحانه، أن هذا الحصر ثابت له عز وجل من حيث الأصالة والمبدأ، ولكنه يسري إلى ما تجلت فيه حقانية الحق، فمن الواضح أن التقديس للإنسان والمكان والزمان، رهن الحقانية المتجلية فيه، وهو نفس معنى أن الله تعالى هو الحق وأن حقانية كل شخص أو شي‏ء فرع اتصاله به سبحانه. يتبع في العدد القادم الحديث عن تقديس الرسول صلى الله عليه وآله.


(1) لسان العرب، ابن منظور، ج‏6، ص‏168 والنهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، ج‏4، ص‏23، والصحاح، الجوهري، ج‏3، ص‏960.
(2) أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية 193.
(3) الراغب الأصفهاني، مفردات غريب القرآن.
(4) التبيان، الشيخ الطوسي، ج‏7، ص‏335.
(5) التبيان، الشيخ الطوسي، ج‏8، ص‏286.
(6) تفسير القرطبي، القرطبي، ج‏12، 14 15.
(7) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج‏14، ص‏345.
(8) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج‏16، ص‏236.
(9) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج‏16، ص‏337.
(10) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج‏14، ص‏402.
(11) انظر: لسان العرب، ابن منظور، ج‏31، ص‏68، ومجمع البحرين، الشيخ الطريحي، ج‏4، ص‏16، وتاج العروس، الزبيدي، ج‏9، ص‏149.
(12) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج‏11، ص‏335.
(13) الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، ص‏125.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع