نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قرآنيات‏: المسلمون غير المسلِّمين‏

الشيخ عبّاس رشيد

 



إن القانون والنظام والضبط لا شك موجود في هذا الكون الشاسع؛ من الذرّة وما دون، إلى المجرَّة وما فوق. فليس هناك فوضى وعبثية، وإلا لفسدت السماوات والأرض. يقول تعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (الرعد: 8) ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (القمر: 49). فإذا كان الأمر كذلك، فهل يخرج الإنسان وهو جزءٌ من الوجود عن هذه القاعدة، فيكون بلا قانون ولا نظام ولا تشريع؟ فاللَّه تعالى لم يترك الإنسان خارج النظام والقانون، لذلك أرسل له من يرشده إلى ذلك، وهم الأنبياء عليهم السلام، وخاتمهم النبي محمد صلى الله عليه وآله بشريعته القرآنية الضابطة والناظمة للإنسان، لنفسه وعقله وسلوكه وحياته الفردية والاجتماعية.

إلا أن الفرق بين النظام الكوني والإنساني، أن الأوّل لا إرادة له في اختيار نظامه فهو مجبور على السير وفق ما قدّره اللَّه له، أما الثاني فإنه صاحب إرادة يختار النظام اختياراً؛ ولهذا سار الأوّل بصلاح لإطاعة خالقه، أما الثاني فإن تجربته التاريخية منذ آدم لم تلاقِ النجاح المطلوب لمخالفته لخالقه العظيم، فكان ظلوماً جهولاً. قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(الأحزاب، 72). فالنظام الكوني لعدم اختياره أسلم وجهه للَّه. قال تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُون (آل عمران: 83). أما الإنسان فإنه بطوعه وإرادته يسلم أو لا يسلم للَّه رب العالمين؛ فإذا أسلم كان صلاحه وإلا فالفساد والسفالة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ.

* المجتمع الإسلامي اليوم‏
من هذه المقدِّمة ندخل إلى الإجابة عن التساؤل الذي طرحناه في عدد سابق (173): إذا كان القرآن الكريم له هذا التأثير، فلماذا إذاً المجتمع الإسلامي الحالي ليس على ما يرام؟ الجواب هو باختصار: إن المسلمين اليوم بحاجة إلى أن يسلِّموا لنظام اللَّه القرآني، كما سلّم الكون لنظام اللَّه الكوني، بذلك يؤثِّر القرآن الكريم أثره. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا (النساء: 125). ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (النساء: 65).

إن المسلمين الأوائل نجحوا في حياتهم ونشروا الإسلام لأنهم التزموا بشريعة اللَّه بكلِّ قوّة وسلَّموا تسليماً، وإن كان هناك بعض الشواذ، ولكن الحالة العامّة هي احترام الشريعة القرآنية والثقة بها والتسليم لأوامرها ونواهيها. أما اليوم فالمسلمون غير مسلِّمين لشريعة اللَّه ونظامه القرآني، والحالة الشائعة فيهم هي التفلُّت وعدم الالتزام. والقلّة هم المسلِّمون، لذلك تراجع المسلمون، وأصبحوا ضعفاء، بعد أن كانوا قدوة وأساتذة للعالم، أصبح العالم ملهمهم وقدوتهم، يا للحسرة! إن مشكلة العالم الإسلامي هي انصراف المسلمين عن شريعتهم القرآنية وعدم الثقة بها، وعدم التسليم لها، ولذلك أصبح الكثير منهم مسلماً بالاسم والهويّة والظاهر، لا بالمسمّى والباطن.

* مثال على تسليم المسلمين الأوائل‏
لقد كان ارتباط العربي بالخمر ارتباطاً كبيراً، فقد كان يهيم بها ويعشقها ويتغزّل بها، ولكن ما إن سمع المسلمون بأمر تحريمها حتى أراقوا ما في بيوتهم من خمر حتى امتلأت بها طرقات المدينة. قال الراوي: (بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر، إذ قمت حتى آتي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فأسلِّم عليه، وقد نزل تحريم الخمر، فجئت أصحابي فقرأت الآية عليهم إلى قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال: وبعض القوم شربتُه في يده شرب بعضاً وبقي بعض في الإناء، فأراقوا ما في كؤوسهم، ثم صبّوا ما في باطيتهم، وقالوا: انتهينا ربّنا)(1).

وفي رواية عن إحدى نساء النبي صلى الله عليه وآله: "إن لنساء قريش لفضلاً، وإني واللَّه ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، وأشدّ تصديقاً لكتاب اللَّه ولا إيماناً بالتنزيل، لمّا نزلت سورة النور:﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل اللَّه إليهم منها، يتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحِّل فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل اللَّه من كتاب، فأصبحن وراء رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كأن على رؤوسهنّ الغربان)(2). هذا هو المجتمع الإسلامي الأوّل، إنه مفعم بالتسليم، يلتزم بشدّة وبسرعة وبلا جهد سوى أن أمر اللَّه قد نزل، فلا حاجة للدعاية والنشر والكتب والخطب وبيان مضار الشي‏ء ومفاسده، وصلاح الشي‏ء ومنافعه.

* من هو قدوتنا؟
يقال: إن أمريكا منعت الخمر، وطاردتها في بلادها واستعملت جميع وسائل المدنية الحاضرة كالمجلاّت والجرائد والمحاضرات والصور والسينما لبيان مضارها، ويقدِّرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضدّ الخمر بما يزيد على 60 مليون دولار، وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على 10 بلايين صفحة، وما تحمَّلته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدّة أربعة عشر عاماً لا يقل عن 250 مليون جنيه، وقد أعدم فيها 300 نفس، وسجن 532335 شخصاً، وبلغت الغرامات 16 مليون جنيه... ولكن كل ذلك لم يزد الأمة الأميركية إلا غراماً بالخمر وعناداً في تعاطيها، حتى اضطرت الحكومة سنة 1933م إلى سحب القانون وإباحة الخمر مطلقاً(3). قارنوا بين الأمة الإسلامية الأولى والأمة الأمريكية الحديثة، تجدون الفرق، أمة سهلة الطاعة، وأخرى مستعصية على الحل، الأولى كفاها قول: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، والثانية لم تكفها 10 بلايين صفحة تدعو إلى الانتهاء عن شرب الخمر! فهل أمتنا الإسلامية الحديثة تريد أن تكون كرائدة العصر أمريكا كما يقولون، أم أنها ستقتدي بالمسلمين الأوائل؟

إن العالم الغربي يتخذ من ضعف المسلمين وفشلهم في الحياة السياسية والاقتصادية وغير ذلك دليلاً على عدم صلاح الإسلام لقيادة العالم فضلاً عن قيادة المسلمين. والحقيقة هي: إن ضعف المسلمين وفشلهم إنما هو لعدم التزامهم وتسليمهم لمقرّرات النظام القرآني الإلهي، فالضعف ليس في الإسلام كشريعة، إنما في المسلمين غير المسلِّمين. فهلاّ سلَّمنا قيادنا للقرآن العظيم، (عليكم بالقرآن فاتخذوه إماماً قائداً)(4) (اللَّه اللَّه في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم)(5).


(1) رواه ابن جرير بسنده عن ابن كثير، مج‏3، ص‏284.
(2) رواه أبو داوود.
(3) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي، ص‏91.
(4) قول للإمام علي عليه السلام، ميزان الحكمة، مج‏8، ص‏68، ح‏16125.
(5) قول للإمام علي عليه السلام، ن.م، ص‏67، ح‏16121.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع